الجمعة، أغسطس 06، 2010

رسالة في عبور الكائن إلى برازخه

فتح محسن النقيب لفافة الكواغد التي جلبها حجي حنّوف إلى مدرسة باب السلطانية كما طلب بستان في وصيّته, وقبل أن يقرأ تأكّد من أنه يجلس في آخر صفّ يواجه المنبر الخفيض الذي كانت تجلس عليه قرّة العين كما اعتاد بستان أن يفعل ليتطلّع إليها وهي تفتك بجواهره حتى أنه كان يقول ليبدّد عن نفسه الفزع : إنني أحمل جواهري المحروقة بيدي .
بدأ النقيب بكاغد أسمر انتزعه من اللفافة وقرأ فيه :
عندما وقف السنبوك الذي يصعد إلى الفرات مع الشطّ فزعت عمّتي (مطرة) من مشهد البحّارة الهنود شبه العراة وهم يحملون حصانا نافقا على لوح خشبي ويرمون به إلى النهر, فصاحت بصوت حاد يشبه الصفير: أجمعوا مواصيل الطين والبعران. ركضت إليها وصرت أجمع المواصيل والبعران التي اعتادت على صنعها من طين الشريعة بأصابعها الطويلة والدقيقة .
أخذ تيار النهر يجرف الحصان باتجاه الفرات ببطء وأحيانا تعلق أخشابه بجذور أشجار ( الطرافي ) التي يعرّيها الماء من الطين العالق فتتحوّل إلى مصائد وفخاخ لكل ما يطوف على سطح النهر من فطائس وكواغد وأحيانا غرقى من قرى بعيدة فندفعه بكعوب شواريط النخل ليتابع انزلاقه , وعندما عدنا كان السنبوك قد غادر بعد أن منح بحّارته الهنود جدّي كيسا كبيرًا من الرز وبعض الشاي والقند , وعند دخولي المضيف جاءني صوت جدّي بلهجة آمرة : بستان حبْ يد الشيخ المشهداني .
كان المشهداني كهلا معتدل القامة , ناحلا , دقيق الملامح . ببشرة سمراء صافية , ويضع على رأسه عمامة كانت لفرط صغرها تجعلني أخسر رهانات كثيرة عندما تصمد أمام الريح ولا تطير بعيدا .
مكث المشهداني أربع سنوات ضيفا على جدّي , وكان يقضي نهاره يحدّق في النخلة التي أجلس تحتها الآن وأحيانا يلمسها وهو يتمتم بكلمات غريبة بصوته البطيء والهامس وعندما اسأله كان يجيبني: إنني أزوّج حروف اسمك بحروفها حتى لا يدلق النسيان طاساته عليك فتغيب عن نفسك ولا تقدر النظرة على حملك إلى المكان الذي تريد أن تصل إليه .
في السنة الأولى علّمني المشهداني كيف أقود سين بستان إلى ميم سلمى , وبعد شهور عندما عانقت نون بستان ألف سلمى قلت: يا شيخي مرّت سنة وتعانقت حروف بستان وأعداده بحروف سلمى وأعدادها ومثلّثاتي بمثلّثاتها ولم تخبرني من هي ؟
وفي السنة الثانية علّمني كيف أحرّك الأشياء بقوّة النظر , وبقوّة النظر وحدها كيف استخرج الأفعى من مخبئها والسمك من النهر وكيف أطرد الجراد والثعالب بتمائم شمعية تذوب فيذوب الجراد من الزرع . وكان يقول : أنّك يا بستان تخاطب الروح التي تكمن في الأشياء لا الأشياء ذاتها .. والروح هي التي تستجيب لك بقوّة الله ولطفه.
ولكنني يا نقيب أحسست بسين بستان يحنّ إلى ميم سلمى ولم أعرفها بعد.
وفي السنة الثالثة علّمني الأوفاق ومثلّثاتها وكيف أصنع حروفها واستخرج مراتبها وأعزّم عليها حتى لا ينام الكلام في غير منزله , فالكلام منازل والقمر منازل والشمس منازل, ثمّ يشير إلى النخلة ويخاطبها: ولك أنت يا عمّتي منازل لا يبلغها المشهداني.
ولم يزل ألف بستان يلمس لام سلمى ويبكي في سرّه يا نقيب.
في السنة الرابعة وكنت قد بلغت العشرين قال: يا بستان عانق النخلة وأمنحها عبورك..
عانقت النخلة . عانقتها حتى إنني رأيت حروف اسمي تنفرط حرفا حرفًا وتدخل في متاهة سرّية خطرة, وكلّما أمسكت بها انفرطت أعدادها وطارت كما يطير النفّاش فما بقي من اسمي سوى رسم نحيف يدفعه الهواء دفعا رقيقا , فأركض خلفه .. أركض .. أركض حتى أمسكه فتنفرط حروفه وأعداده ويطير ثانية , ومثل موجة ملوّنة من الهواء اللّيّن كان يدور بين بيوت الطين والصرائف التي تمسك بها شريعة النهر بمعجزة أدركها البنّاؤون الأوائل, فأدور معه ويركض بمحاذاة شطّ الدويهية حتّى يبلغ الشارع الكبير المؤدي إلى كربلاء فتبدو المنائر كالذهب المائع .. ولا أدري كم من الوقت مرّ وأنا أطارد حروف بستان, ولكنني أتذكّر أحيانا عندما أمسك بسين بستان في مجرى من الهواء الملوّن الغليظ, أقول: أمسكت بك يا سيني العاقّ.. فيجيبني: أنا لام سلمى , فأتركه .. وأمسك في أحيانٍ أخرى الباء في نفق مظلم تحت الأرض فأقول: أمسكت بك يا بائي .. فيقول : أنا ألف سلمى ,, فأتركه . وعندما وصلت النخلة تعبت حروفي وأعدادها وتعبت أنا أيضا ولم تعد تطير كما يطير النفّاش, فأمسكت بها وأرجعتها إلى طاستي, ثمّ التفتّ إلى المشهداني فلم أجده ولم أجد حولي سوى رضا العطّار وهو يواصل جلوسه العريق في دكّانه الصغير .
أخبرني العطّار بموت جدّي في السنة الثالثة وهروب أبي في ذات السنبوك الذي جاء به المشهداني في السنة السابعة, وقتل الكليدار لداود ابن كاظم المشهداني وتقاسم السدنة خواتمه السبعة وطيران عمامته الصغيرة في يوم ساكن بلا ريح .
لقد كسبت الرهان أخيرًا وطارت عمامة المشهداني .. قلت:
ولكنّ رضا العطّار بقي مشدودا إلى نظرتي وكأنه لم يسمعني , فأردفت :
ـ منذ متى يا عطّار وأنا أطارد حروفي؟
ـ منذ ثلاث عشرة سنة وأنت تركض في كلّ مكان , ولطالما جاءنا بك ناس من قرى بعيدة , وفي مرات تنقطع أخبارك شهورًا فيتعرّف عليك بعض من أهالي ( شط ملّة ) ويأتون بك إلينا . فمرّة وجدوك في البصرة نائما على جسر (سورين) , وكان العابرون يحسبونك ميتا , ومرّة في أعلى المنارة تحاول أن تقنع المؤذن أن يدعك ترمي بنفسك لأنك قادر على الطيران أفضل من حمامات الكاظم , ومرّة أخرى عالقا بجذور الطرافي في شطوط الهاشميات بالكوفة .
وكلّما ربطناك إلى النخلة صرخت: لقد زوّجت حروفي بحروف اسمها وذابت أعداد سلمى بحروفي .
أحببتُ سلمى ولم أرها بعد.
ما حدث يا نقيب أن حروف اسمينا أحبّت بعضها, وحتى لو لم ألتقِ قرّة العين بباب السلطانيّة فأن حروفنا ستواصل البحث عن بعضها وقد تلتقي ذات يوم في حجر حفنة أو في خان النخيلة أو في باب السلالمة حيث دخل الغزاة منه إلى الحضرة ورجعوا ومعهم رأس المشهداني .
وعندما قتلت قرّة العين, غابت أسبابها فلم أستطع سوى استرداد شال الطواويس بقوّة النظر.
عليّ أن أموت يا نقيب لتتحرّر حروفي وأعدادها وتعبر هذا البرزخ الهوائي الغليظ
لتعانق حروفها من جديد .