السبت، أبريل 21، 2012

النّظرُ إلى الأبديّةِ من الأرضِ الحَرام



1


الرجلُ الذي نفضَ عن بدَنهِ خلاصةَ السيمياءِ وآلةَ الصيفِ


سيتعيّنُ عليه أن يفكّرَ في عدّة اشياء قبل أن ينظر إلى الأبدية من الأرض الحرام.


عليه التفكير في:


ــــ مصائر الرجالِ في كردمند وزبيدات ومجنون ونهر جاسم


ــــ الورّاقون يدوّنون الغيب


ــــ الشجرةُ تعدُ الغابةَ بالأبديّة


ــــ المرأةُ التي تفرك النقطةَ بثباتها


ــــ الرجلُ يفرك الثباتَ بتحوّلاتِه


ــــ الصوتُ يصغي إلى نفسِهِ


ــــ الشيءُ يقولُ الكلمةَ


أو يقولُ الكتابَ ولا يأخذهُ بقوّةٍ


ــــ الصيفُ بجرعات كبيرة


ــــ القتيلُ التبس علينا بحياتِه


ــــ الهواءُ محمولاً


ــــ الهواءُ موجوداً وقابلاً ليكونَ الطريدةَ


ــــ وليد كشيش يلومُ الحياةَ على قلّتها






2


كان سيمضي لولا أنه تذكّر ما تركهُ في الأرضِ الحرام


سيتذّكر الصباحَ بحالٍ طفيفٍ من الرغبةِ






3


كان عليه التفريقُ بين الطيرِ وجناساتِها





4


كان سيمضي أيضاً


وكنت سأغبطهُ على موتِه


ووقوفِه على ما عاد به العداؤون في الليلةِ الماضية





5


يقول أشياء عن الحياةِ السائلةِ للماء






6


الكلدانيّ الذي لم يتذكّر الكتابَ جيداً


رأيتهُ بعد ذلك بعشرين عاماً


يعطّل ساعته


ليفرّق بين الوقتِ وجماداتِه


تحدّثَ معي عن حياةٍ سائلةٍ


وعن كناياتٍ طفيفةٍ


ووجودٍ يشبه عدّاءً عاد بمخطوطٍ


عن ترياقِ الحرب







7


ماذا سيكونُ عليك أن تدخلَ لتصلَ


إنّه جسدُك


المسْه ببطءٍ


تعرّفْ عليه


افركْه إن لزم الأمر


اخرجْ معه في رحلةٍ داخلية


هناك فحسب ستجده


وقد صعد إليه الوراقون بكتبهم


يدوّنون الغيبَ


ويرتدّون عنه إلى حياةٍ محجوبةٍ


انظرْ إليه


سيشبهك بعض الشيء


وسيعبره الهواء أيضا


يرتفع به قليلاً


قليلاً فحسب


وسترى إليه بكلّ الغياب الذي تدّخره في بدنك


منذ آخر حربٍ


سيبدو لأولِ وهلةٍ


منزوعاً من قوّة الغيب


وربما طاعناً في زواله


ولكنه سيدرك وجودك


سيتطلّع فيك


ويحدّثك عن أصدقاء الأرض الحرام


الحرب خطأ ضلّل نفسه


بصوابٍ لم يعرف بأمره أحدٌ


اصغِ إليه


سيكون الماءُ فراسةً عاطلةً


والغيبُ هواءً بالمقلوب


تطلّعْ فيه


حدّثْه عن موتك


أحدكما فقط سينجو


ليكن أنت هذه المرّة أيضاً


لأنه سيحتاجُ إلى وقتٍ طويلٍ


ليعتادَ على الحياة


وربما لن يعتادَ عليها أبداً


وبلا شكٍّ سيفكّر بما يتعيّن عليه أن يفعلَ


حتى لا يشبهك أكثر


ويموتُ من حياةٍ واحدة







8


يا له من رجلٍ


يعود بحياةٍ زاهدةٍ يحملُها الهواءُ


فلقد كان كعادتِه


سريعَ العطب







9


يحتفظ للزوال بألعابٍ


قابلةٍ لإطالةِ عذابه


وترياقٍ أعدّهُ محاربون قدامى


بعضهم لا زال يحصي عدمه







10


الحربُ كائنٌ سياميّ


يعرف طريقاً مختصراً جداً


وغير معروفٍ إلا للقلّةِ


من أجل تأبيد حيواتنا الفزعة







11


سنتذكّرُ في اللحظةِ الأخيرةِ


ما سيتعيّن علينا أن نفعلَه لنذهبَ إلى الجهة الأخرى من الحرب


ونعودُ لا مرئيين


نَصِفُ الماءَ بكناياتٍ سائلةٍ


ونَصِفُ الحليبَ بوقائعَ بيضاء







12


يحدث غالباً


أن تكمنَ مدينةً أخرى


لا نكرّرُها ولا ندركُ مادتها


مدينةً في المخيلة


أنهارُها ، صوابُها


قدرتُها على تأمينِ الموت


أو الصيفِ بجرعاتٍ كبيرةٍ


القادمون إليها


أولئك الذين احتاجوا بلا شكّ إلى فراساتٍ كثيرة


ليتمكّنوا من تأكيدها


لدرجة أن يكونوا قادرين على جعلها


مصنوعةً من مادةِ نفسِها


مدينة سيحدث الشيء خارجها


بجرعةٍ أقل هذه المرة


ستكون بارعةً في تضليل الأبدية


أشجارُها سائلةٌ لدرجةِ أنّها تُحملُ باليد


تتّخذُ فيها الأفكارُ


صورةً مطرودةً من مادتها الأصلية


أزهارُها تصلح لموتٍ سريريّ مفاجئ


طرائدُها لا تستسلمُ من أوّل موتٍ


والصيادون يعدّون كمائن للأشياء الثابتة


لأن مادةَ الصياد هي ذاتَها مادة الطريدة


رجالُها يضعون حدّاً لحياتهم بالحبّ


والنساءُ يغرقن من أوّل ماء


ليتعرّفن على ماهيته


مدينة لم يتحدّثْ عنها الفارابي


ولا جرّب فيها ابن سينا ترياقاً


سيمهله يوماً آخر


أو طريقاً مختصراً للنجاة


مدينة تستبطنُ الشيء


سيصلها عداؤون ماتوا في حرب سابقةٍ


عندما يخرجون على قوّة الفقد


مدينةٌ سائلةٌ


طرائدُها بيضاء







13


ستكون الكلمةُ ساحةَ الجريمة


النظرةُ كذلك


وسيأتي الهواءُ بدليلٍ على قوّة المفاجأة


ستأتي المرأة بأخطاءٍ شبيهةٍ بموتٍ جرّاء


حياةٍ عاجلة


وسيأتي الرجلُ بإدانة فورية







14


كل ما سيحدثُ


سيكونُ قد حدث بالفعل


لا وقت ليعرفَ القتيلُ عن هذا كلِّه


إنّه جميلٌ كما لو مارس طوالَ حياته


السقوطَ الحرّ بالمظلات


ولكنه فشل في اللحظة الأخيرة


باختبار مادة الهواء







15


ما فعله لن يكون موتاً جمّاً


ولا حياةً سانحةً



سيكون بتعبيرٍ رواقيّ: تحليقٌ زائف لاختيار القمّة


من السفح







16


إن كان لا بدّ له أن يموت


فإنه سيموت من قلّة الفقد


أو الحياة بالمقلوب







17


النّظر إلى النار


إلى مادتها بالتحديد


إلى ملائكةٍ محاصرين


في ملاجيء غير حصينةٍ


يعطّلون النظرةَ


حتى لا تتقدم أمامهم



النّظر إلى نهايات مؤكدة


حيث لا يمكن لاحدٍ أن يتأخرَ


أو يذهبَ في طريقٍ آخر







18


الأشياءُ التي حدثت بالفعل


أو تلك التي لم تحدثْ بعد


سنتذكرُ بعضها بقليلٍ من الطيش


وبمرارةٍ أحيانا


ودائما ستكونُ حقيقيةً لدرجة أنها ستحدث مرّةً أخرى


حتى وإن لم تكن حدثت في الواقع


سنقول عنها بضعة أمور


ثمّ لا نتذكّر شيئاً مما نقوله


لأنها ستحدث سواء فكرنا بها مليّاً


أم لم نفكّرْ إطلاقاً


أشياء مؤجلةٍ أو معطّلةٍ كحرب لم تخرج من قوّتها


ولكنها تنشبُ دائما







19


دخانٌ


هواءٌ مركّب


صوابٌ مخلوط


جريحٌ ما زال في الأرض الحرام


أعرفه بالاسم


كان يفضّل كامو على سارتر


ومع هذا لم يمتْ في حادثةِ سَيْرٍ


أو جريمةٍ مقيّدةٍ ضدّ مجهول


يفضّل سيزيف على ديكارت


ويتحدّث عن الوقيعة


عن رجلٍ عطّلته الحرب


عن جنودٍ بلا غيب


عن مسيحٍ مؤنث


عن حادثةِ سَيْرٍ سيخرج منها بجرحٍ سطحيّ


كان يشعر بخيبةٍ جراء ما سيحدثُ له


فلقد كان يفضّل كامو على سيزيف


ومع هذا سيتذكّر أن شيئاً شبيهاً حدث من قبل


وسيكون عليه أن يموتَ بالفعل


قبل أن يخرجَ


من الأرضِ الحرام







20


ما الذي تنظرُ إليه


تطلّعْ إليّ


سندركُ الفائتَ


نعودُ به إلى مستعمراتٍ صغيرةٍ


من الضالعين بالزوال


لا تنظرْ إليهم


فسوف لن تعتادَ على هذا أبداً


إنهم يصوّبونَ نحوك


وستعودُ كما عرفتك لأولِ مرّةٍ


كائناً جوفيّاً







21


هل تتذكّرُ أنكَ قلتَ ذلك؟


تتذكّرُ ما كان سيحدث لولا أن (جاسم مانع)


سردَ علينا امرأةً


ظهرت أمامهُ فجأةً


في الأرضِ الحرام







22


نتحدثُ عن البلاد



نقفُ على مسافةٍ واحدة من الكناياتِ الكثيرة التي تمنحُها


صورةُ كائنٍ خرج على نفسِه


ماذا سيفعل الناجونَ


أحدهم سيخرج على نفسِه أيضاً


نتحدث عن البلادِ وكأنها تمرين نفسيّ


كم مرّة سنبدأ من جديدٍ


ما يحدث محاولة غير قابلةٍ للتفسير


على الرغم من أننا


نقف على مسافة واحدة


غير أنّ لا أحد سيصل







23


أكمنٌ فيّ


أتعقّبني وأنا أدخلُ الملجأ


وأعود بحياةٍ أخرى


وأحياناً لا أعود بشيء


أتركُني هناك


وأتطلعُ إليّ من مكانٍ آخر


أحدنا سيدخل الملجأ ولا يخرج بشيءٍ


أما الآخر فسيخرج بعدمِه







24


سنتذرّعُ بالكتابةِ إلى آباءَ لا يدركون ما نفعله في الخارج


تأملاتنا شبيهةٌ بماءِ الضّحك


لا نجد مكاناً نسقط فيه


نشغل الحربَ بحياةٍ عاجلةٍ


ونتحدث إلى أصدقاء لم ينتشلهم أحدٌ


نبتكر حِيَلاً جديدةً لنجعلَ النظرة تتجوّل طليقةً


ثمّ نقول لا بأس


نخرجُ من الحربِ بأفعالٍ لا تصلح للتأمل


نتردّد على المدينة كما لو أن أحدنا سيختفي في أية لحظة


وأحياناً لا نعود


فيموت الآباء


بلا رسائل







25


نتفقّد بعضنا


مَنْ سيكون الآخر


هناك دائماً أحد ما ننظر إليه للمرّةِ الأخيرة


نبتسمُ ونتحدّثُ عن نساء بقاماتٍ شاهقة


يتجولن وحيداتٍ في رؤوسنا


وفي يد كلّ واحدة منهنّ غزالة عمياء


تذهبُ بها إلى نبعٍ غير مرئيّ في نهاية الحرب


ودائماً ما تكون هناك امرأةٌ


لا تعرف ما تفعل بغزالتها


امرأة طويلةٌ كالحرب


أو مثل تفّاحةٍ جوفيّةٍ


تبتسم قليلاً


وقد لا نلحظ أنها ابتسمت حقّاً


أمرأة تتجوّل وحيدةً


ولا تعود بشيء







26


من ملجئه


يبعث رسائل عاجلةٍ إلى الله


يتحدّث فيها عن حربٍ محجوبة


ورجلٍ ضلّله في كمين عام 1990


وعاد ليقول شيئاً ما عن المرأة التي لن تكون زوجته


أبداً


رسائلَ عاجلة دائماً


وأحياناً يكتفي بإشاراتٍ متّفقٍ عليها


كلّ شيء يصل بلا تأخير


الرسائل تصل


وحتما سيقرّر الله في شأنها بضعة أشياء ..


الإشاراتُ، سيردّ عليها بإشاراتٍ مماثلةٍ


ولأنه كريمٌ وواسعُ الحيلة


سيحرّك يديه الواسعتين طوالَ الوقت


الرجل الذي ضلّله في كمينٍ


سيدرك متأخراً بعد أن يكون فرّط بفرصته الوحيدة


أنه لن يبلغَ الطرفَ الآخر من الحرب


المرأةُ التي لن تكونَ زوجته


سيتعرّف عليها بعد عودته من الحرب في إجازةٍ قصيرة


وستحبّ كثيراً رسائله العاجلة


ولأنه بسيطٌ كالصيف


وليس واسع الحيلة


فسيمنحها معرفته وإشاراته


فتبدأ على الفور بكتابة رسائل منمقة


وطويلة من غرفة نومها إلى الله


وستخاطبه بإشاراتٍ متفقٍ عليها


ولأنه كريم وواسع الحيلة دائماً


سيدعو الرجل إلى مائدته


ويتفرّغ للمرأة التي لن تكون زوجته أبداً







27


تتذكّرنا الحرب


وتقلّبنا في رأسها


كما يتذكّر الهواء الرئات التي اعتقلته على غير رغبة منه


وكما يتذكّر الماء ما يفعله الجنود بحياته السائلة


تتعقّبنا الحرب بمهارةٍ فائقة


كما يتعقّب الخريفُ غابةً


ويحرصُ بنفسه على نزع آخر ورقةٍ


بل ولفرط إجادته لعمله


فإنه يعدّ المكان الذي ستسقط فيه


ولا يترك مجالاً للشكّ أو المصادفة


تربّتُ الحربُ على أكتافنا


حتى ننفرطَ


وبالطريقة نفسها ستغمرنا بحضورها


وربما ستصنع شجرةَ ميلادٍ هائلةٍ


لنتدلّى منها بالمقلوب


مضائين بالحياة السائلة لوقائع بيضاء







28


الحربُ أو الحياةُ بالمقلوبِ


فراسةُ النّهبِ


أو النّظرُ إلى الأبدية


من الأرضِ الحرام







29


يخرجُ ولا يجد أحداً في انتظاره


أو يدخلُ فيتعرّف على صورته بصعوبةٍ


وربما بمكيدةٍ مضادة


ولكنه سيتذكر بعض الأفعال الرائجة


وبعض أصدقائه الذين


ماتوا معه في حربٍ


سابقة







30


لم يكن صديقي صالح حسين اليساري


ولا يشبه ممدوح جاسم


أو حتى حسين بسحنته الواجمة


وليس بالطبع قيس سامي بيده التي تشبه منجنيقاً حيّاً


أو جواد بقامته الطويلة كالحرب الأولى


أو حسن طعمة بقامته القصيرة كالحرب الثانية


كان رجلاً آخر


ولفرط ما يبدو عليه من اختلاف


كان يفضّل أن ننفخَ حياته من أمامه


وأحيانا يفعل ذلك بنفسه


وبالخصوص عندما يكتشف


أننا لم نعد مرئيين بما يكفي


وإن الحرب نفخت حياتنا من أمامنا







31


العالم في الخارج


يشبه ما سوف لن نعرفه


عن تلك الكثافات المركزة


التي تحدث عنها ابن سينا


ولا يشبه كل ما سوف لن ندركه


من أفكار مركّبة


تقود إلى الشيء ذاته


العالم في الخارج


كثير بنفسه







32


رغم أنّه شيءٌ لن يحدثَ أبداً


ولكننا سنعرفه


وربما نكون بالفعل عرفناه ذات مرةٍ


من غير أن ندركَ ذلك


لأن ما سوف لن نعرفَه


يحدث في الغالب بطرقٍ أخرى


إنها حاجة إلى المناورة


وإلى تحديد ماهيّة الكلام


عندما لا يقول نفسه


أو يرسل شبيهه إلى حفلة تنكرية


لن يعود منها حيّاً .







33


لقد عاد حيّاً مرة أخرى


إنه أمر يدعو إلى الريبة،


أليس كذلك ؟


فعل كل ما بوسعه


ولم يحدث العكس


حرّك النائم من مكانه


فرّغ الحب من ذخيرته


فتح الباب ولم يكن أحد خلفه


عاد بالكتاب إلى قوّته


وبالواقف إلى ثباته


دعه وشأنه


لن يحدث العكس مرّة أخرى


ولا أحد سيتمكن من استعادة


ما لم يعشه .





الاثنين، أغسطس 09، 2010

32

(1)

الكائن وشبيهه


عندما تناولته من القسم العبري من المكتبة، بدا غريبا لأول وهلة، لم أعد أتذكّر شيئا عنه، كان مخبوءً بعناية بين شرح التلمود بطبعة بيرن (1613) وكتاب قوانين غابريال اللاهوتي.
كان عثوري عليه تأكيد لتلك الفكرة الحصيفة: إننا غالبا ما نفقد الأشياء من فرط حرصنا عليها عندما نمعن في إخفائها حتى لا نعود قادرين على استعادتها حين نحتاج إليها.
لم يكن لون غلافه الأحمر الشاحب شبيها بأغلفة الكتب حوله، ولا حتى حجمه يجعله قادرا على التخفّي بمثل هذه البراعة.
كان مكتوبا بصيغة تبدو كما لو أعددته للنشر وتخلّصت من عشرات المسوّدات التي سبقت التدوين الذي عليه الآن. ورغم أن الأبنية والقاموس ومناخات النصوص كانت مألوفة تماما، إلا أنني لم أتذكّر الكتاب بنصوصه الثلاثين كلّها.
ماذا فعل الكتاب لينجو بنفسه طوال ثلاث عشرة سنة.؟
هل امتلك تلك القوة التي منحته القدرة ليلتحم في الكتب حوله كلّما حدسني قربه؟
يحدث أحيانا أن نسمع بأشياء شبيهة، إرم ذات العماد مثلا.
يردُ في المصادر أنها تبزغ على حين غرّة في أماكن ولأشخاص معدودين وفي أوقات ليست معلومة. وقد تكون رواية الإعرابيّ الذي دخل مجلس معاوية وهو يحمل حفنة جواهر محاولة لتأبيد فكرة المدينة الفاضلة في مخيال جماعات من الرحّل، وأتذكّر أنني فكرت بتلك القوة التي تدفع مدينة من المعادن النفيسة والأحجار الكريمة لتظهر من أحشاء الهواء وملكها مازال يقبض على صولجانه الربوبيّ.
هل أنا الآن في مواجهة كتاب نضّجته أحشاء الهواء ودفعته بين كتابيّ شروح التلمود وقوانين القدّيس غابريال؟
هل هي محاولة جادة ليتمكن الفراغ أخيرا من تأبيد نفسه هو الآخر؟
شعرت لوهلة بالسعادة لقدرتي على تصديق كل ذلك ..
الكتاب الذي خرج من القوّة إلى الفعل بغلافه الجلدي الأحمر كان معي طوال الطريق إلى مقهى يوليوس في شارع (هيرن سترات) جلست في ركن تطلّ نافذته المعشّقة بالرصاص على شارع (فرانس كوك شورن)، وأخذت أتصفّح الكتاب خلل بخار الشاي ورائحة خشب الجوز الذي ينبعث من الطاولة، وبعد لحظات كنت أنتظر أن يواصل الكتاب ألعابه وتبزغ صفحة لم أكن رأيتها من قبل أو مفردة قادرة على التحوّل في كلّ مرّة أستعيدها. مفردة تتبدّل هيئتها ومعناها وتمنح إحالات جديدة من غير أن تزحف عن مكانها.
توقّفت أمام مفردة (باب(، تكرّرت لمرات في نصوص كثيرة وكنت أحدس تلك القوّة التي لم أفعل شيئا لتفاديها لكي أغمس إصبعي، فإن كان الباب (كما فكّرت بجديّة في الأمر) مفردة دالة على العبور والنفاذ والتجاوز فهي في كتاب خرج من أحشاء الفراغ ستكون بلا ريب قادرة على جعلي أدخلها وأنفذ إلى الجهة الأخرى.
ولكن هل ستكون الجهة الأخرى من الكلمة ذاتها، أم النصّ؟
هل سأدخل أحشاء النصّ ذاته وأعني مختبره اللغوي والإشاري ومسالكه السريّة ومكابداته وإحالاته وكائناته المضمرة وتلك التي ليست سوى فخاخا ومكائد في طريق القاريء، وفي هذا الموضع فكرتُ ببودلير عندما خاطب القاريء: أيها القاريء المرائي، أخي، يا شبيهي.
هل سأكون كائنا شبيها أم خالقا لمتاهة النصّ ووحدته وكائناته؟
هل أدخله تلمّسا كما يدخل الأعمى حفلة تنكريّة؟
ومرّة أخرى شعرتُ بغواية تدفعني للحديث عن رجل أعمى (سيكون شبيهي بالطبع) وُلد في سيرك، وبعد سنوات من الحياة مع بهلواناته بأنوفهم الحمراء الكبيرة وشعورهم المستعارة وشفاههم الغليظة كان عليه أن يتعرّف على ملامح امرأة جميلة، صارت أصابعه تتفرّس في وجهها، لمس شفتيها الرقيقتين، أنفها الصغير، جبهتها الناعمة، شعر لبعض الوقت أنه أمام مسخ وربّما أيضا أحسّ بحاجة حقيقية للصراخ.
لم يكن الجبين مضرّسا ولا الشفتين غليظتين تجعلان الكلام يخرج حادا شبيها بالصفير وأحيانا صارما، كان رعبه الحقيقي بسبب أن الكائن الذي أمامه، المسخ، يشبهه. بغتة شعر أنه لم يكن فريدا. إنه شبيهه، مسخ آخر مثله، وكان عليهما أن يدخلا بعضهما تلمّسا تماما كما يدخلان حفلة تنكريّة واحدة.
هذا ماسيكون عليه دخولي وأعني أن أدخل الكتاب أو النصّ من مفردة الباب، باء الباب، لأن الألف لا يمكنها أن تكون أصلية في المفردة، ربّما كانت صوتا خفيضا للفتحة ثمّ أشبعتْْ ومالت نحو الألف وأخذت صوته حتى صار (باب) وليس)بب(.
أدخل من مكاني الذي يشرف على شارع فرانس كوك شورن، أغمس أصبعي في بائه أولا، وعندما أكون في الجهة الأخرى سأكون حقيقيا جدا وأنا أتذكر ابن طفيل يتحدّث عن حيّ بن يقظان وولادته في فجوة على هيئة رحم، إنها فرصة لا يمكنها أن تتكرّر لأكثر من مرّة واحدة، أن أدخل وأنا صلاح حيثاني وأبلغ الجهة الأخرى من الكتاب أو النص أو فجوة ابن طفيل وأنا شبيهي.
سيبدو الأمر مضحكا وأنا أتحدّث عن رجل يدخل الباب وعندما يجتاز عتبته سيكون شبيهه وليس هو.
ربما تمنحنا فكرة الشبيه فرصة أنْ نتطلّع إلينا ونتعقّبنا عندما لا نكون نحن. أعني عندما نكون شهودا نمتلك القدرة على التأكيد أو النفيّ.
فكّرتُ بما سيفعله شبيهي بثلاثين نصّا، سيتجوّل بين فخاخي ومكائدي وسيعلق بفارزة أو نقطة ضالة وربما سيتعثّر بالهمزة أو نقطة الكاف، وقد يسقط في النون، النون التي يصنّفها علماء الفونوطيقا بأنها أقدم الأصوات الدالة على معنى في ذاتها، سيسقط فيها، وبالطبع سيكرهني، ولكنه سيعثر على (إيما) إيما المرأة الطويلة والناحلة التي التقيتها في مقهى أنشتاين بمدينة ليدن، ستكون تلك آخر أيامها، امرأة تتوحّد على كرسيّها وتحلم بموسيقيين ساقوهم إلى الحرب، ففقدوا أطرافهم، سيحبّها وسيكون جديّا وهو يحاول أن يقنعها بضرورة أن تتخلّى عنّي لأنني لم أمت بعد، وأنني أحببت امرأة أخرى،. وسيحبها أكثر عندما تتخلى له عن كرسيّها لأنه منذ اسبوع يتجوّل في كمائن أعددتها بعناية فائقة في نصوصي الثلاثين، وعندما يجلس على كرسيّ إيما سيدرك من فوره أنه تمكّن من النجاة، ولن يفعل طوال الساعات القادمة سوى نزع الفوارز الصغيرة والنقاط وربما بعض الحروف المنبورة من قدميه ويديه وخاصرته.
ستأتي له إيما بصورة تجمعنا معا تعود إلى عام 1996 أبدو فيها رجلا نحيلا بعينين لامعتين وشعر أشعث وبيدي كتاب عوليس لجيمس جويس، أما إيما فكانت تقف إلى جانبي وتطوي على مرفقها معطفا مطريّا أصفر وتتطلّع في وجهي بعزلاتها كلّها.
هذا ما سيكون على شبيهي معرفته عن المرأة الطويلة الناحلة، إنها تتطلّع بعزلاتها، وتشيح ببصرها بعيدا بالعزلات ذاتها، تبتسم وتأكل وترمق شجرة السرو في حديقتها وتتسلّق سلّما خشبيا من أجل تثبيت لوحة مقلّدة لمارك شاغال بعزلاتها أيضا. ولأنها لا تترك رجلا أعزل يتجوّل في نصوصي من غير دليل ستكون دليله وسترشده إليّ، وبالطبع سيكون من المنطقيّ أن تدعوه إلى نصوصها المفضّلة، ستقوده إلى (موت بستان بعيدا عن بئر القدّوسة) وإلى )قرايات) و(شير فضّة)، ستكون مرشدا سياحيا بين مسالك نصوصي وفخاخها الكثيرة، وسيخرج دون أن تلتقط قدماه فارزة أو نقطة، وسيحبها أكثر ويدعوها إلى قتلي أكثر أيضا، ولكنه سيتخلّى أخيرا عن كلّ هذه الدعوات التي ستجعله إيما يعرف أنها شاذة من تلقاء نفسه ومن غير أن تقول شيئا.
سيتوسّل إليها أن يخرجا من باء الباب ويعودا معا ليتقاسما الطاولة في مقهى يوليوس وسيقنعها أنه شبيهي وبالحقيقة أنه ليس سوى صلاح حيثاني، إنها الحقيقة بالرغم مما تبدو عليه من غرابة، لقد كان (صلاح) قبل أن يدخل من باء الباب في الكتاب الأحمر وعندما صار في الجهة الأخرى شعر بغتة أنهما يشتركان في ذاكرة واحدة، وإذا كانت الكتابة مضمارا شاسعا وأبديا فإنهما يشتركان في المضمار ذاته أيضا، وربما سيصل أحدهما وربما يصلان معا وقد لا يصل أحد منهما في نهاية الأمر. سيخبرها أنه لن يكون هناك، بل صلاح وحسب من سيكون جالسا على كرسيّه، يتفرّس في الكتاب خلل بخار الشاي المتصاعد ورائحة خشب الجوز.







(2)

خروج إيما ومكوث الشبيه


خرجتْ إيما ومكث شبيهي يتعثّر بين النصوص وتحوّلاتها، هل هذا حقّا ما حدث، أو ما كان سيحدث أو ما يجب أن يحدث أخيرا؟
إيما المرأة الطويلة والناحلة بقبّعة من اللبّاد البنّيّ على طاولتي في مقهى يوليوس، امرأة اصطحبت عزلاتها معها وتبتسم بطريقتها التي تجعلك تشعر أن الحياة ممكنة مرّة أخرى على الأرض حتى بعد أن تكون قد تعرّضت لهجوم نيازك عملاقة.
ـ إيما أخبرتك ذات مرّة أنك امرأة غير قابلة للموت
ـ نعم ولكنك لم تكن موفّقا، لقد متُّ لأكثر من مرّة واحدة لكي لا أكون امرأة أخرى، أشعر أنني دمية لحيوان غير معمّر، حزينة ومتوحّدة ومرنة أكثر مما يجب، تتعاقب عليّ أجيال من الأصابع الصغيرة الناعمة ودائما كنتُ أُترك في صناديق وأدراج ضيّقة حتى أتعفّن كلّما دخل البيت حيوان معمّر جديد.
ذات مرّة خرجت جارتي إلى الشارع وبرفقتها جرو صغير تطلق عليه (ستب) كان يومهما الأول معا، بعد ثلاث سنوات صار ستب كلبا ناضجا يعادل عمره نحو 27 عاما لأن ستب من جنس كلاب الرعي الألمانية التي سنته تسع سنوات بحسابنا، وعندما بلغ السادسة صار يقود جارتي، فهو الآن في منتصف الخمسين، يتطلّع إلينا بحذر ممزوج بحكمة كلب ألمانيّ سيحتضر بعد سنتين.
أتذكّر احتضاره، كان طويلا ومديدا وكانت الخرخشة التي ينفثها في زفيره تجعلني أفكّر كم صار خربا وبائسا، كان يفتح عينيه على سعتهما للحظات قبل أن يغمضهما طويلا، جسده ملفوف ببطانية لا يخرج منها سوى رأسه الضئيل وقوائمه النحيلة، لقد حاصرته بنحيبها طوال أربع ساعات قبل أن تغمض عينيه وتخرج إلى الشارع وهي تنشج، كانت كمن يطلب النجدة التي لم تكن سوى العزاء الذي سيجعلها تتردد لبعض الوقت قبل أن تقتني كلبها الجديد ( روب )
كم أحتاج الآن إلى أن أخبرك أن العزاء الذي نطلبه من أجل الحيوانات غير المعمّرة لا يكون عزاءً معمّرا بدوره، سيفقد تأثيره سريعا، أليس كذلك؟ هذا تماما ما أشعر به، لا يمكنني أن أكون حقيقية خارج نصوصك، وهو أمر يربكني كثيرا ولا بد أن أؤكد لك أنه يجعلني أفكّر في الخطوة التي تفصل الكائن عن الهاوية، فعندما يسقط فيكون أحدهما سقط في الآخر، وقد تكون الهاوية هي التي سقطت في الكائن وليس العكس.
كانت إيما تتحدّث وهي تحرّك قدح الشاي على الطاولة بيديها
ـ إيما هل يمكن لأحدنا أن يكون سقط في الآخر ولم يستطع الخروج رغم جميع هذه المحاولات؟
ـ هل حقّا كانت هناك محاولات جديّة للخروج؟ لا أعرف ربّما كانت موجودة ولكنني لم أشعر بها بعد، هل حاولت بدورك لتخرج منّي؟
ـ لستِ هاويتي لأخرج منك، بالطبع سيكون الخروج قياسا على ما سمعته منك في شأن الكائن وهاويته، كنت أعني أن ما أشعر به شبيه بحلول كائن في جسد كائن آخر.
في المساء عندما عدت إلى البيت كان الشارع فارغا ومعتما قليلا وتظهر أشجاره العالية كما لو كانت أسماكا هائلة تسبح في ظلام رائب، وعندما صرت أمام حديقة السيدة داوس تذكّرتُ عملاتها القاجارية وزينتها التي تعود إلى ماقبل الحرب العالمية الثانية وأكثر من ذلك تذكّرت الكثير من اللّقى غير المنظورة التي علقتْ ببنطالي وأسفل حذائي.
قبل أن أفتح الباب ابتسمتُ من أجل بائه ثمّ أدرت المفتاح وعبرتُ إلى الجهة الأخرى.








(3)


خرائط ملكيادس


إنه صديقي خضير، رجل (البوكينا)، رأيته في الـ (MSN) وتحدّثتُ معه بعد مرور أكثر من عام على آخر مرّة.
قال أنه لم يعد يحب عمله كبستانيّ لأن الجميع هنا يعرفون الأشياء ذاتها، يريدون البوكينا وحسب، وكتب بلهجة ضجرة:
أعمل تحويضات بقياسات لا تتغيّر، وأغرس النبتة ذاتها، وحتى عندما يطلب أحد ما غرس السلال وعمل تفريشات عموديّة، فإنه لا يسألني عن نبتة أخرى سوى البوكينا.
يبدو كل شيء كما لو أن أحدهم أعدّه من قبل ليكون فخّا حقيقيا، وها أنا أصبحت رجل البوكينا، يعرفني الجميع بهذا الاسم. هذا ما صرتُ إليه أنا خضير.
كتبتُ: لا بأس يا صديقي، أنها مهنة لا تختلف عن الخرائطيّ الذي يكمن فيك، وكنتُ أريد بإشارتي هذه تنبيهه إلى معرّفه في الماسنجر (اتبع خرائط ملكيادس)، رجل ماركيز في عزلاته، ولكي لا يكون المثال معزولا أخبرته أن البوكينا قد تكون معادلا مدهشا للمغناطيس الهائل الذي كان الرجل يسحله عبر شوارع قريته فليلتقط الأشياء كلها، يلتقط الحديد ومسامير السفن والعربات على الساحل وربما أرواح البحارة وحيوات أسلافه وتلك الأشياء التي لم نقلها بعد.
تأخر لبرهة قبل أن يكتب: سأسافر إلى المكسيك، ربما سيكون لقاؤنا القادم من هناك، أفكّر برؤية ماركيز، ولكن لا يبدو الأمر ممكنا، فلقد سمعتُ أنه محاط بحراسات مشددة ورجال أمن، أنه مجنون وعليه أن يتعرّف على رجل البوكينا ليكون محظوظا، الجنون وحده لم يعد كافيا، ربما سيسألني عن البوكينا، عندها سيتعيّن عليه أن يتذّكر أنها مغناطيس هائل قد تسحبه إليها عاريا.
ـ ستكون عزلاته حقيقية أكثر بكثير من كائناته بـ (ماكاندو).
ـ هذه المرّة لن تكون مئة عام وحسب، بل ستمتد حتى لا يبقى أحد من ذريته في أسبانيا ولا كولومبيا ولا حتى المكسيك.
كان يبدو الآن مرحا، رجل بوكينا حقيقيّ، صديقي خضير، الرجل الذي قال ذات مرّة أنني لن أتعرّف عليه لو رأيته فلقد أطلق لحيته وشعر رأسه منذ أحد عشر عاما ولم يشذبهما قطّ، صارا بلون أبيض ليمعن في تضليلنا، كانت لعبة في أوّل الأمر، أراد أن يتخفّى عن ابنه بعد أن عجز عن إيجاد مكان لا يكتشفه فيه.
ـ كان عليّ أن أعرف أن الخامسة هي السنّ التي لا يمكث فيها حجاب بين الكائن وحاجته. كان يريد أن يجدني خلف الطاولة، يعدّ حتى العشرين ثمّ يقصدني باستقامة كما لو أخفاني بنفسه، وبعد مضيّ أسبوع كان عاجزا عن تضليل نفسه، اسمه (أوس)، طفل لا يمكن العبث بحواسه.
تنفرط الأشياء من حوله وتتبدّد ولكنه قادر على تجميعها بحواس باطنةٍ، أخبرتني زوجتي هيلين أنها ربّما تكون مزيجا ميتافيزيقيا غامضا، قالت كلماتها بلهجة حاسمة وكأنها كانت مطمئنة لهذه النتيجة التي توصّلت إليها أخيرا. لذا قررت أنا رجل البوكينا تضليل أوس وحواسه الميتافيزيقية. استيقظتُ في ساعة مبكرة وخضبتُ شعر رأسي ولحيتي بلون زيتيّ أبيض ناصع وذهبتُ من فوري إلى سريره ثم انحنيت عليه وقلت بصوت مديد هاديء: أوس
فتح عينيه على سعتهما، وحدّق عميقا في ملامحي، ثمّ أشاح بوجهه إلى الجهة الأخرى وقال: لا يمكنك أن تكون أبي، اذهبْ، لا يمكن لأوس أن يكتشف رجلا آخر غير أبيه، ثمّ هدأ بعض الوقت حتى خلتُ أنه عاد إلى نومه، ولكنه استدار فزعا نحوي وقال بلهجة متوسّلة: إلهي، هل حقا انتهت أيّامي، هل ستفعلها سريعا يا أبانا الأبيض؟
شعرتُ بالفزع والرعب، تدفق الدم سريعا إلى عضلات وجهي حتى صار كتلة صلدة، ثمّ تراخى مرّة واحدة وتخدّدت جبهتي وهطلت وجنتاي حتى شعرتُ بمحجريّ يسيلان على نتوء عظام الوجنة التي بزغت مثل تلّ، هرولتُ إلى الحمّام وتطلّعتُ سريعا إلى المرآة، كان رجلا آخر منْ يتمرأى فزعا أمامها وليس أنا، لم يكن ما حدث كابوسا، كان كلّ شيء حقيقيّا تماما، فركتُ شعري بكلّ المساحيق التي وجدتها في الأدراج دون جدوى.
لم تتعرّف عليّ زوجتي، وخلال أسبوع اضطررت إلى سرد كل الأشياء التي لا يعرفها غيرنا لتصديقي، وعندما فعلتْ أخيرا لم يعد بوسعي إعادة شعري ولحيتي إلى سوادهما، أما أوس فلم يتعرّف عليّ بعد ومازال يتجنّبني حتى اليوم، وعندما يضطر إلى الجلوس معي على طاولة واحدة، فإنه يتجنّب التحديق في وجهي ويكتفي بالقول: نعم أيها الربّ، نعم يا أبانا الأبيض، شكرا لأنك لم تخترني هذا اليوم أيضا، سأكون طيبا ورائعا وأصلّي من أجل أبي، رجل البوكينا الذي اخترته وفزت بهيلين زوجته.








(4)


الرجل الذي يفهرس الحرب


لا أعرف ماذا شعرتُ إزاء أوس، ربما كان ضحية رجل البوكينا، إلهه الابيض ولكن أكثر ما جعلني أشعر بالبؤس لا بالغضب كما كان سيفعل أي شخص في موقفي هو سؤاله الرب: هل انتهت أيامي؟
سمعتُ هذا السؤال قبل عشرين سنة، كان ذلك بعد هجوم (أهوار مجنون) عندما تعرّضتْ وحدتنا العسكرية للإبادة أثناء حرب الخليج الأولى، فتجمّع من بقي منّا في معسكرات ثابتة وتمّ تعويض القتلى والمفقودين والجرحى بجنود جدد ساقوهم من مدارس القتال إلى الجبهات قبل أن يتقنوا تفكيك السلاح وتركيبه.
في أحد الأيام دخل مقر سريتنا كتاب مجلس محاكمة جنديّ اسمه (مجيد)، كان مصوّرا فوتوغرافيا بارعا، يتعامل مع القصف بغريزة المصوّر الذي تكمن فيه بثبات كامل، يرفع يديه سريعا ويصنع مربّعا صغيرا بأصابع الوسطى والسبابة ويغمض عينا ثمّ يرمق سقوط القذيفة بعينه المفتوحة ويرفع سبابته باستقامة ويواصل النظر ثم يلتفت ناحيتنا ويقول: ستسقط القذيفة القادمة في ذلك المربع والتي بعدها هناك، وبعد دقائق نترك نقطة القتال على عجل وندخل الشقّ الأرضيّ بإشارة منه، فتسقط القذيفة في المكان الذي فارقناه قبل برهة.
كان مجيد يفهرس الحرب، يفهرس الأيام أيضا، كان يفهرسنا ويجعل حياتنا محض مربعات بالوسطى والسبابة، يعرف المربع الذي تقود إليه، إنه شبيه بمغناطيس ملكيادس، تتجمع حوله حيوات الجنود الفزعة، يمشي فيتبعه حشدٌ من جنود الأفواج والوحدات القريبة، لم يكن ينسى الوجوه التي تتدفّق عليه، يأسرها بحركة سريعة من اصبعيه ويحرّكها ببراعة.
كنّا انتهينا للتوّ من (فرضيّة هجومية) وهو مصطلح نتداوله عند تنفيذ هجوم افتراضيّ على مواقع عدوّة، وتشتمل مراحل منه على إطلاق ذخيرة حيّة.
تمدّد مجيد بجانب تلّ ترابيّ، كان يغنّي بصوته الأجشّ العميق عندما وصل رئيس عرفاء السريّة وأخبره أن مجلس محاكمته وصل وعليه أن يقوم بتسليم السلاح وقناع الغاز والسفريّ إلى المشجب وسيُقاد مخفورا إلى المحكمة العسكرية في ساعة مبكرة من يوم غد.
حدّق مجيد المصوّر في الفراغ، ولوقت طويل لم يقل شيئا، كان رئيس عرفاء السرية يقف مثل مذنب أمام تحديقه الذي امتدّ حتى خرج من المعسكر وتوغّل في زبيدات والدبيسات وترك مدينة العمارة خلفه، حتى بلغ قضاء (علي الغربي) ودخل بيت أبيه الحاج حميد أول الأمر ثمّ دخل الغرفة في يمين السرداب والتي شهدت احتضار سبعة من عائلته في جائحة الكوليرا عام 1963، ومنذ تلك الأيام لم يدخلها أحد بعد أن أوصدت بمزاليج وأقفال كثيرة.
الأسرّة السبعة مازالت في أماكنها وأوعية القيء وصرر الملابس التي لم يجرؤ أحد على حرقها لأنهم لو فعلوا ذلك لفرّطوا بكل ما ادّخره السبعة في حياتهم.
وبالطبع كانوا لا يحتاجون إلى وقت طويل ليتعرّفوا على الأسباب التي تجعل مجيد يفهرس المكان ويحصي تحولاته بسبابته وابهامه وأحيانا بالوسطى والسبابة منذ أن كان في الثالثة من عمره، لأن هذا ماكان يفعله عمه الذي قتله الحرس القوميّ قبل نهاية شباط من سنة الجائحة ذاتها.
لم يعثروا على جثته قطّ، فلقد أذابها الحرس بماء النار مع مئات الأجساد الأخرى لحركة اليسار العراقي التي تحالفت مع الجمهورية الأولى.
ـ هل تعرف سلام عادل؟ سألني مجيد ذات مرة
ـ نعم أعرفه، قلت باقتضاب
ـ كان صديقا حميما لعمي، اختفيا معا في غرفة الجائحة لشهرين قبل أن يخرجا ويستقلا مشحوفا صغيرا قطعا به هوريّ (الحويزة والحمّار) في أحد عشر يوما.
مازالت ملابسه وساعته اليدوية ونظارته التي أهدتها له امرأة من صوفيا وسبعة عشر سجلا بأسماء رفاقه يحتفظ بها أبي على السرير ذاته الذي غادره لآخر مرّة.
هل سمعتَ بمثل هذا الأمر من قبل؟ سألني مجيد دون أن يحوّل بصره عن منعرجات الشقّ الأرضيّ الكثيرة.
جلس على سرير سلام عادل وأخذ يتفرّس في أغراضه ونظارته، وضع ساعته من نوع أوميغا في يده وصار يرمق الوقت، وضع سبابته عليه وأطلقه، تدحرج على نفسه وانزلق الزمن، اختلطت فجوته الهائلة التي امتدّت من اللحظة التي غرس ضابط الحرس القومي سيخا معدنيا في عين سلام عادل حتى اللحظة التي اقتيد فيها مخفورا إلى محكمة الفرقة (18) في العمارة.
حدّق مجيد في وجه رئيس عرفاء الّسريّة وقال:
ـ هل انتهتْ أيامي حقّا؟.