الاثنين، أغسطس 09، 2010

32

(1)

الكائن وشبيهه


عندما تناولته من القسم العبري من المكتبة، بدا غريبا لأول وهلة، لم أعد أتذكّر شيئا عنه، كان مخبوءً بعناية بين شرح التلمود بطبعة بيرن (1613) وكتاب قوانين غابريال اللاهوتي.
كان عثوري عليه تأكيد لتلك الفكرة الحصيفة: إننا غالبا ما نفقد الأشياء من فرط حرصنا عليها عندما نمعن في إخفائها حتى لا نعود قادرين على استعادتها حين نحتاج إليها.
لم يكن لون غلافه الأحمر الشاحب شبيها بأغلفة الكتب حوله، ولا حتى حجمه يجعله قادرا على التخفّي بمثل هذه البراعة.
كان مكتوبا بصيغة تبدو كما لو أعددته للنشر وتخلّصت من عشرات المسوّدات التي سبقت التدوين الذي عليه الآن. ورغم أن الأبنية والقاموس ومناخات النصوص كانت مألوفة تماما، إلا أنني لم أتذكّر الكتاب بنصوصه الثلاثين كلّها.
ماذا فعل الكتاب لينجو بنفسه طوال ثلاث عشرة سنة.؟
هل امتلك تلك القوة التي منحته القدرة ليلتحم في الكتب حوله كلّما حدسني قربه؟
يحدث أحيانا أن نسمع بأشياء شبيهة، إرم ذات العماد مثلا.
يردُ في المصادر أنها تبزغ على حين غرّة في أماكن ولأشخاص معدودين وفي أوقات ليست معلومة. وقد تكون رواية الإعرابيّ الذي دخل مجلس معاوية وهو يحمل حفنة جواهر محاولة لتأبيد فكرة المدينة الفاضلة في مخيال جماعات من الرحّل، وأتذكّر أنني فكرت بتلك القوة التي تدفع مدينة من المعادن النفيسة والأحجار الكريمة لتظهر من أحشاء الهواء وملكها مازال يقبض على صولجانه الربوبيّ.
هل أنا الآن في مواجهة كتاب نضّجته أحشاء الهواء ودفعته بين كتابيّ شروح التلمود وقوانين القدّيس غابريال؟
هل هي محاولة جادة ليتمكن الفراغ أخيرا من تأبيد نفسه هو الآخر؟
شعرت لوهلة بالسعادة لقدرتي على تصديق كل ذلك ..
الكتاب الذي خرج من القوّة إلى الفعل بغلافه الجلدي الأحمر كان معي طوال الطريق إلى مقهى يوليوس في شارع (هيرن سترات) جلست في ركن تطلّ نافذته المعشّقة بالرصاص على شارع (فرانس كوك شورن)، وأخذت أتصفّح الكتاب خلل بخار الشاي ورائحة خشب الجوز الذي ينبعث من الطاولة، وبعد لحظات كنت أنتظر أن يواصل الكتاب ألعابه وتبزغ صفحة لم أكن رأيتها من قبل أو مفردة قادرة على التحوّل في كلّ مرّة أستعيدها. مفردة تتبدّل هيئتها ومعناها وتمنح إحالات جديدة من غير أن تزحف عن مكانها.
توقّفت أمام مفردة (باب(، تكرّرت لمرات في نصوص كثيرة وكنت أحدس تلك القوّة التي لم أفعل شيئا لتفاديها لكي أغمس إصبعي، فإن كان الباب (كما فكّرت بجديّة في الأمر) مفردة دالة على العبور والنفاذ والتجاوز فهي في كتاب خرج من أحشاء الفراغ ستكون بلا ريب قادرة على جعلي أدخلها وأنفذ إلى الجهة الأخرى.
ولكن هل ستكون الجهة الأخرى من الكلمة ذاتها، أم النصّ؟
هل سأدخل أحشاء النصّ ذاته وأعني مختبره اللغوي والإشاري ومسالكه السريّة ومكابداته وإحالاته وكائناته المضمرة وتلك التي ليست سوى فخاخا ومكائد في طريق القاريء، وفي هذا الموضع فكرتُ ببودلير عندما خاطب القاريء: أيها القاريء المرائي، أخي، يا شبيهي.
هل سأكون كائنا شبيها أم خالقا لمتاهة النصّ ووحدته وكائناته؟
هل أدخله تلمّسا كما يدخل الأعمى حفلة تنكريّة؟
ومرّة أخرى شعرتُ بغواية تدفعني للحديث عن رجل أعمى (سيكون شبيهي بالطبع) وُلد في سيرك، وبعد سنوات من الحياة مع بهلواناته بأنوفهم الحمراء الكبيرة وشعورهم المستعارة وشفاههم الغليظة كان عليه أن يتعرّف على ملامح امرأة جميلة، صارت أصابعه تتفرّس في وجهها، لمس شفتيها الرقيقتين، أنفها الصغير، جبهتها الناعمة، شعر لبعض الوقت أنه أمام مسخ وربّما أيضا أحسّ بحاجة حقيقية للصراخ.
لم يكن الجبين مضرّسا ولا الشفتين غليظتين تجعلان الكلام يخرج حادا شبيها بالصفير وأحيانا صارما، كان رعبه الحقيقي بسبب أن الكائن الذي أمامه، المسخ، يشبهه. بغتة شعر أنه لم يكن فريدا. إنه شبيهه، مسخ آخر مثله، وكان عليهما أن يدخلا بعضهما تلمّسا تماما كما يدخلان حفلة تنكريّة واحدة.
هذا ماسيكون عليه دخولي وأعني أن أدخل الكتاب أو النصّ من مفردة الباب، باء الباب، لأن الألف لا يمكنها أن تكون أصلية في المفردة، ربّما كانت صوتا خفيضا للفتحة ثمّ أشبعتْْ ومالت نحو الألف وأخذت صوته حتى صار (باب) وليس)بب(.
أدخل من مكاني الذي يشرف على شارع فرانس كوك شورن، أغمس أصبعي في بائه أولا، وعندما أكون في الجهة الأخرى سأكون حقيقيا جدا وأنا أتذكر ابن طفيل يتحدّث عن حيّ بن يقظان وولادته في فجوة على هيئة رحم، إنها فرصة لا يمكنها أن تتكرّر لأكثر من مرّة واحدة، أن أدخل وأنا صلاح حيثاني وأبلغ الجهة الأخرى من الكتاب أو النص أو فجوة ابن طفيل وأنا شبيهي.
سيبدو الأمر مضحكا وأنا أتحدّث عن رجل يدخل الباب وعندما يجتاز عتبته سيكون شبيهه وليس هو.
ربما تمنحنا فكرة الشبيه فرصة أنْ نتطلّع إلينا ونتعقّبنا عندما لا نكون نحن. أعني عندما نكون شهودا نمتلك القدرة على التأكيد أو النفيّ.
فكّرتُ بما سيفعله شبيهي بثلاثين نصّا، سيتجوّل بين فخاخي ومكائدي وسيعلق بفارزة أو نقطة ضالة وربما سيتعثّر بالهمزة أو نقطة الكاف، وقد يسقط في النون، النون التي يصنّفها علماء الفونوطيقا بأنها أقدم الأصوات الدالة على معنى في ذاتها، سيسقط فيها، وبالطبع سيكرهني، ولكنه سيعثر على (إيما) إيما المرأة الطويلة والناحلة التي التقيتها في مقهى أنشتاين بمدينة ليدن، ستكون تلك آخر أيامها، امرأة تتوحّد على كرسيّها وتحلم بموسيقيين ساقوهم إلى الحرب، ففقدوا أطرافهم، سيحبّها وسيكون جديّا وهو يحاول أن يقنعها بضرورة أن تتخلّى عنّي لأنني لم أمت بعد، وأنني أحببت امرأة أخرى،. وسيحبها أكثر عندما تتخلى له عن كرسيّها لأنه منذ اسبوع يتجوّل في كمائن أعددتها بعناية فائقة في نصوصي الثلاثين، وعندما يجلس على كرسيّ إيما سيدرك من فوره أنه تمكّن من النجاة، ولن يفعل طوال الساعات القادمة سوى نزع الفوارز الصغيرة والنقاط وربما بعض الحروف المنبورة من قدميه ويديه وخاصرته.
ستأتي له إيما بصورة تجمعنا معا تعود إلى عام 1996 أبدو فيها رجلا نحيلا بعينين لامعتين وشعر أشعث وبيدي كتاب عوليس لجيمس جويس، أما إيما فكانت تقف إلى جانبي وتطوي على مرفقها معطفا مطريّا أصفر وتتطلّع في وجهي بعزلاتها كلّها.
هذا ما سيكون على شبيهي معرفته عن المرأة الطويلة الناحلة، إنها تتطلّع بعزلاتها، وتشيح ببصرها بعيدا بالعزلات ذاتها، تبتسم وتأكل وترمق شجرة السرو في حديقتها وتتسلّق سلّما خشبيا من أجل تثبيت لوحة مقلّدة لمارك شاغال بعزلاتها أيضا. ولأنها لا تترك رجلا أعزل يتجوّل في نصوصي من غير دليل ستكون دليله وسترشده إليّ، وبالطبع سيكون من المنطقيّ أن تدعوه إلى نصوصها المفضّلة، ستقوده إلى (موت بستان بعيدا عن بئر القدّوسة) وإلى )قرايات) و(شير فضّة)، ستكون مرشدا سياحيا بين مسالك نصوصي وفخاخها الكثيرة، وسيخرج دون أن تلتقط قدماه فارزة أو نقطة، وسيحبها أكثر ويدعوها إلى قتلي أكثر أيضا، ولكنه سيتخلّى أخيرا عن كلّ هذه الدعوات التي ستجعله إيما يعرف أنها شاذة من تلقاء نفسه ومن غير أن تقول شيئا.
سيتوسّل إليها أن يخرجا من باء الباب ويعودا معا ليتقاسما الطاولة في مقهى يوليوس وسيقنعها أنه شبيهي وبالحقيقة أنه ليس سوى صلاح حيثاني، إنها الحقيقة بالرغم مما تبدو عليه من غرابة، لقد كان (صلاح) قبل أن يدخل من باء الباب في الكتاب الأحمر وعندما صار في الجهة الأخرى شعر بغتة أنهما يشتركان في ذاكرة واحدة، وإذا كانت الكتابة مضمارا شاسعا وأبديا فإنهما يشتركان في المضمار ذاته أيضا، وربما سيصل أحدهما وربما يصلان معا وقد لا يصل أحد منهما في نهاية الأمر. سيخبرها أنه لن يكون هناك، بل صلاح وحسب من سيكون جالسا على كرسيّه، يتفرّس في الكتاب خلل بخار الشاي المتصاعد ورائحة خشب الجوز.







(2)

خروج إيما ومكوث الشبيه


خرجتْ إيما ومكث شبيهي يتعثّر بين النصوص وتحوّلاتها، هل هذا حقّا ما حدث، أو ما كان سيحدث أو ما يجب أن يحدث أخيرا؟
إيما المرأة الطويلة والناحلة بقبّعة من اللبّاد البنّيّ على طاولتي في مقهى يوليوس، امرأة اصطحبت عزلاتها معها وتبتسم بطريقتها التي تجعلك تشعر أن الحياة ممكنة مرّة أخرى على الأرض حتى بعد أن تكون قد تعرّضت لهجوم نيازك عملاقة.
ـ إيما أخبرتك ذات مرّة أنك امرأة غير قابلة للموت
ـ نعم ولكنك لم تكن موفّقا، لقد متُّ لأكثر من مرّة واحدة لكي لا أكون امرأة أخرى، أشعر أنني دمية لحيوان غير معمّر، حزينة ومتوحّدة ومرنة أكثر مما يجب، تتعاقب عليّ أجيال من الأصابع الصغيرة الناعمة ودائما كنتُ أُترك في صناديق وأدراج ضيّقة حتى أتعفّن كلّما دخل البيت حيوان معمّر جديد.
ذات مرّة خرجت جارتي إلى الشارع وبرفقتها جرو صغير تطلق عليه (ستب) كان يومهما الأول معا، بعد ثلاث سنوات صار ستب كلبا ناضجا يعادل عمره نحو 27 عاما لأن ستب من جنس كلاب الرعي الألمانية التي سنته تسع سنوات بحسابنا، وعندما بلغ السادسة صار يقود جارتي، فهو الآن في منتصف الخمسين، يتطلّع إلينا بحذر ممزوج بحكمة كلب ألمانيّ سيحتضر بعد سنتين.
أتذكّر احتضاره، كان طويلا ومديدا وكانت الخرخشة التي ينفثها في زفيره تجعلني أفكّر كم صار خربا وبائسا، كان يفتح عينيه على سعتهما للحظات قبل أن يغمضهما طويلا، جسده ملفوف ببطانية لا يخرج منها سوى رأسه الضئيل وقوائمه النحيلة، لقد حاصرته بنحيبها طوال أربع ساعات قبل أن تغمض عينيه وتخرج إلى الشارع وهي تنشج، كانت كمن يطلب النجدة التي لم تكن سوى العزاء الذي سيجعلها تتردد لبعض الوقت قبل أن تقتني كلبها الجديد ( روب )
كم أحتاج الآن إلى أن أخبرك أن العزاء الذي نطلبه من أجل الحيوانات غير المعمّرة لا يكون عزاءً معمّرا بدوره، سيفقد تأثيره سريعا، أليس كذلك؟ هذا تماما ما أشعر به، لا يمكنني أن أكون حقيقية خارج نصوصك، وهو أمر يربكني كثيرا ولا بد أن أؤكد لك أنه يجعلني أفكّر في الخطوة التي تفصل الكائن عن الهاوية، فعندما يسقط فيكون أحدهما سقط في الآخر، وقد تكون الهاوية هي التي سقطت في الكائن وليس العكس.
كانت إيما تتحدّث وهي تحرّك قدح الشاي على الطاولة بيديها
ـ إيما هل يمكن لأحدنا أن يكون سقط في الآخر ولم يستطع الخروج رغم جميع هذه المحاولات؟
ـ هل حقّا كانت هناك محاولات جديّة للخروج؟ لا أعرف ربّما كانت موجودة ولكنني لم أشعر بها بعد، هل حاولت بدورك لتخرج منّي؟
ـ لستِ هاويتي لأخرج منك، بالطبع سيكون الخروج قياسا على ما سمعته منك في شأن الكائن وهاويته، كنت أعني أن ما أشعر به شبيه بحلول كائن في جسد كائن آخر.
في المساء عندما عدت إلى البيت كان الشارع فارغا ومعتما قليلا وتظهر أشجاره العالية كما لو كانت أسماكا هائلة تسبح في ظلام رائب، وعندما صرت أمام حديقة السيدة داوس تذكّرتُ عملاتها القاجارية وزينتها التي تعود إلى ماقبل الحرب العالمية الثانية وأكثر من ذلك تذكّرت الكثير من اللّقى غير المنظورة التي علقتْ ببنطالي وأسفل حذائي.
قبل أن أفتح الباب ابتسمتُ من أجل بائه ثمّ أدرت المفتاح وعبرتُ إلى الجهة الأخرى.








(3)


خرائط ملكيادس


إنه صديقي خضير، رجل (البوكينا)، رأيته في الـ (MSN) وتحدّثتُ معه بعد مرور أكثر من عام على آخر مرّة.
قال أنه لم يعد يحب عمله كبستانيّ لأن الجميع هنا يعرفون الأشياء ذاتها، يريدون البوكينا وحسب، وكتب بلهجة ضجرة:
أعمل تحويضات بقياسات لا تتغيّر، وأغرس النبتة ذاتها، وحتى عندما يطلب أحد ما غرس السلال وعمل تفريشات عموديّة، فإنه لا يسألني عن نبتة أخرى سوى البوكينا.
يبدو كل شيء كما لو أن أحدهم أعدّه من قبل ليكون فخّا حقيقيا، وها أنا أصبحت رجل البوكينا، يعرفني الجميع بهذا الاسم. هذا ما صرتُ إليه أنا خضير.
كتبتُ: لا بأس يا صديقي، أنها مهنة لا تختلف عن الخرائطيّ الذي يكمن فيك، وكنتُ أريد بإشارتي هذه تنبيهه إلى معرّفه في الماسنجر (اتبع خرائط ملكيادس)، رجل ماركيز في عزلاته، ولكي لا يكون المثال معزولا أخبرته أن البوكينا قد تكون معادلا مدهشا للمغناطيس الهائل الذي كان الرجل يسحله عبر شوارع قريته فليلتقط الأشياء كلها، يلتقط الحديد ومسامير السفن والعربات على الساحل وربما أرواح البحارة وحيوات أسلافه وتلك الأشياء التي لم نقلها بعد.
تأخر لبرهة قبل أن يكتب: سأسافر إلى المكسيك، ربما سيكون لقاؤنا القادم من هناك، أفكّر برؤية ماركيز، ولكن لا يبدو الأمر ممكنا، فلقد سمعتُ أنه محاط بحراسات مشددة ورجال أمن، أنه مجنون وعليه أن يتعرّف على رجل البوكينا ليكون محظوظا، الجنون وحده لم يعد كافيا، ربما سيسألني عن البوكينا، عندها سيتعيّن عليه أن يتذّكر أنها مغناطيس هائل قد تسحبه إليها عاريا.
ـ ستكون عزلاته حقيقية أكثر بكثير من كائناته بـ (ماكاندو).
ـ هذه المرّة لن تكون مئة عام وحسب، بل ستمتد حتى لا يبقى أحد من ذريته في أسبانيا ولا كولومبيا ولا حتى المكسيك.
كان يبدو الآن مرحا، رجل بوكينا حقيقيّ، صديقي خضير، الرجل الذي قال ذات مرّة أنني لن أتعرّف عليه لو رأيته فلقد أطلق لحيته وشعر رأسه منذ أحد عشر عاما ولم يشذبهما قطّ، صارا بلون أبيض ليمعن في تضليلنا، كانت لعبة في أوّل الأمر، أراد أن يتخفّى عن ابنه بعد أن عجز عن إيجاد مكان لا يكتشفه فيه.
ـ كان عليّ أن أعرف أن الخامسة هي السنّ التي لا يمكث فيها حجاب بين الكائن وحاجته. كان يريد أن يجدني خلف الطاولة، يعدّ حتى العشرين ثمّ يقصدني باستقامة كما لو أخفاني بنفسه، وبعد مضيّ أسبوع كان عاجزا عن تضليل نفسه، اسمه (أوس)، طفل لا يمكن العبث بحواسه.
تنفرط الأشياء من حوله وتتبدّد ولكنه قادر على تجميعها بحواس باطنةٍ، أخبرتني زوجتي هيلين أنها ربّما تكون مزيجا ميتافيزيقيا غامضا، قالت كلماتها بلهجة حاسمة وكأنها كانت مطمئنة لهذه النتيجة التي توصّلت إليها أخيرا. لذا قررت أنا رجل البوكينا تضليل أوس وحواسه الميتافيزيقية. استيقظتُ في ساعة مبكرة وخضبتُ شعر رأسي ولحيتي بلون زيتيّ أبيض ناصع وذهبتُ من فوري إلى سريره ثم انحنيت عليه وقلت بصوت مديد هاديء: أوس
فتح عينيه على سعتهما، وحدّق عميقا في ملامحي، ثمّ أشاح بوجهه إلى الجهة الأخرى وقال: لا يمكنك أن تكون أبي، اذهبْ، لا يمكن لأوس أن يكتشف رجلا آخر غير أبيه، ثمّ هدأ بعض الوقت حتى خلتُ أنه عاد إلى نومه، ولكنه استدار فزعا نحوي وقال بلهجة متوسّلة: إلهي، هل حقا انتهت أيّامي، هل ستفعلها سريعا يا أبانا الأبيض؟
شعرتُ بالفزع والرعب، تدفق الدم سريعا إلى عضلات وجهي حتى صار كتلة صلدة، ثمّ تراخى مرّة واحدة وتخدّدت جبهتي وهطلت وجنتاي حتى شعرتُ بمحجريّ يسيلان على نتوء عظام الوجنة التي بزغت مثل تلّ، هرولتُ إلى الحمّام وتطلّعتُ سريعا إلى المرآة، كان رجلا آخر منْ يتمرأى فزعا أمامها وليس أنا، لم يكن ما حدث كابوسا، كان كلّ شيء حقيقيّا تماما، فركتُ شعري بكلّ المساحيق التي وجدتها في الأدراج دون جدوى.
لم تتعرّف عليّ زوجتي، وخلال أسبوع اضطررت إلى سرد كل الأشياء التي لا يعرفها غيرنا لتصديقي، وعندما فعلتْ أخيرا لم يعد بوسعي إعادة شعري ولحيتي إلى سوادهما، أما أوس فلم يتعرّف عليّ بعد ومازال يتجنّبني حتى اليوم، وعندما يضطر إلى الجلوس معي على طاولة واحدة، فإنه يتجنّب التحديق في وجهي ويكتفي بالقول: نعم أيها الربّ، نعم يا أبانا الأبيض، شكرا لأنك لم تخترني هذا اليوم أيضا، سأكون طيبا ورائعا وأصلّي من أجل أبي، رجل البوكينا الذي اخترته وفزت بهيلين زوجته.








(4)


الرجل الذي يفهرس الحرب


لا أعرف ماذا شعرتُ إزاء أوس، ربما كان ضحية رجل البوكينا، إلهه الابيض ولكن أكثر ما جعلني أشعر بالبؤس لا بالغضب كما كان سيفعل أي شخص في موقفي هو سؤاله الرب: هل انتهت أيامي؟
سمعتُ هذا السؤال قبل عشرين سنة، كان ذلك بعد هجوم (أهوار مجنون) عندما تعرّضتْ وحدتنا العسكرية للإبادة أثناء حرب الخليج الأولى، فتجمّع من بقي منّا في معسكرات ثابتة وتمّ تعويض القتلى والمفقودين والجرحى بجنود جدد ساقوهم من مدارس القتال إلى الجبهات قبل أن يتقنوا تفكيك السلاح وتركيبه.
في أحد الأيام دخل مقر سريتنا كتاب مجلس محاكمة جنديّ اسمه (مجيد)، كان مصوّرا فوتوغرافيا بارعا، يتعامل مع القصف بغريزة المصوّر الذي تكمن فيه بثبات كامل، يرفع يديه سريعا ويصنع مربّعا صغيرا بأصابع الوسطى والسبابة ويغمض عينا ثمّ يرمق سقوط القذيفة بعينه المفتوحة ويرفع سبابته باستقامة ويواصل النظر ثم يلتفت ناحيتنا ويقول: ستسقط القذيفة القادمة في ذلك المربع والتي بعدها هناك، وبعد دقائق نترك نقطة القتال على عجل وندخل الشقّ الأرضيّ بإشارة منه، فتسقط القذيفة في المكان الذي فارقناه قبل برهة.
كان مجيد يفهرس الحرب، يفهرس الأيام أيضا، كان يفهرسنا ويجعل حياتنا محض مربعات بالوسطى والسبابة، يعرف المربع الذي تقود إليه، إنه شبيه بمغناطيس ملكيادس، تتجمع حوله حيوات الجنود الفزعة، يمشي فيتبعه حشدٌ من جنود الأفواج والوحدات القريبة، لم يكن ينسى الوجوه التي تتدفّق عليه، يأسرها بحركة سريعة من اصبعيه ويحرّكها ببراعة.
كنّا انتهينا للتوّ من (فرضيّة هجومية) وهو مصطلح نتداوله عند تنفيذ هجوم افتراضيّ على مواقع عدوّة، وتشتمل مراحل منه على إطلاق ذخيرة حيّة.
تمدّد مجيد بجانب تلّ ترابيّ، كان يغنّي بصوته الأجشّ العميق عندما وصل رئيس عرفاء السريّة وأخبره أن مجلس محاكمته وصل وعليه أن يقوم بتسليم السلاح وقناع الغاز والسفريّ إلى المشجب وسيُقاد مخفورا إلى المحكمة العسكرية في ساعة مبكرة من يوم غد.
حدّق مجيد المصوّر في الفراغ، ولوقت طويل لم يقل شيئا، كان رئيس عرفاء السرية يقف مثل مذنب أمام تحديقه الذي امتدّ حتى خرج من المعسكر وتوغّل في زبيدات والدبيسات وترك مدينة العمارة خلفه، حتى بلغ قضاء (علي الغربي) ودخل بيت أبيه الحاج حميد أول الأمر ثمّ دخل الغرفة في يمين السرداب والتي شهدت احتضار سبعة من عائلته في جائحة الكوليرا عام 1963، ومنذ تلك الأيام لم يدخلها أحد بعد أن أوصدت بمزاليج وأقفال كثيرة.
الأسرّة السبعة مازالت في أماكنها وأوعية القيء وصرر الملابس التي لم يجرؤ أحد على حرقها لأنهم لو فعلوا ذلك لفرّطوا بكل ما ادّخره السبعة في حياتهم.
وبالطبع كانوا لا يحتاجون إلى وقت طويل ليتعرّفوا على الأسباب التي تجعل مجيد يفهرس المكان ويحصي تحولاته بسبابته وابهامه وأحيانا بالوسطى والسبابة منذ أن كان في الثالثة من عمره، لأن هذا ماكان يفعله عمه الذي قتله الحرس القوميّ قبل نهاية شباط من سنة الجائحة ذاتها.
لم يعثروا على جثته قطّ، فلقد أذابها الحرس بماء النار مع مئات الأجساد الأخرى لحركة اليسار العراقي التي تحالفت مع الجمهورية الأولى.
ـ هل تعرف سلام عادل؟ سألني مجيد ذات مرة
ـ نعم أعرفه، قلت باقتضاب
ـ كان صديقا حميما لعمي، اختفيا معا في غرفة الجائحة لشهرين قبل أن يخرجا ويستقلا مشحوفا صغيرا قطعا به هوريّ (الحويزة والحمّار) في أحد عشر يوما.
مازالت ملابسه وساعته اليدوية ونظارته التي أهدتها له امرأة من صوفيا وسبعة عشر سجلا بأسماء رفاقه يحتفظ بها أبي على السرير ذاته الذي غادره لآخر مرّة.
هل سمعتَ بمثل هذا الأمر من قبل؟ سألني مجيد دون أن يحوّل بصره عن منعرجات الشقّ الأرضيّ الكثيرة.
جلس على سرير سلام عادل وأخذ يتفرّس في أغراضه ونظارته، وضع ساعته من نوع أوميغا في يده وصار يرمق الوقت، وضع سبابته عليه وأطلقه، تدحرج على نفسه وانزلق الزمن، اختلطت فجوته الهائلة التي امتدّت من اللحظة التي غرس ضابط الحرس القومي سيخا معدنيا في عين سلام عادل حتى اللحظة التي اقتيد فيها مخفورا إلى محكمة الفرقة (18) في العمارة.
حدّق مجيد في وجه رئيس عرفاء الّسريّة وقال:
ـ هل انتهتْ أيامي حقّا؟.