الاثنين، أغسطس 09، 2010

حقل رماية أخضر

(رسالة من أجل ممدوح جاسم)


(1)
حقل رماية أخضر، الظلام أخضر كثيف، يضرّس الأشياء
هكذا بدأ الأمر، كان عليك التصديق أن شيئا ما، لا يمكنك تأكيده ولا حتى نفيه يدفع الأشياء بعيدًا عن صيروراتها الحقيقية
الشجرة لم تعد شجرة لأنها خضراء أكثر مما يلزم لشجرة.
كنت تبتسم من أجل الميم لأنها تكررت في اسمك لمرتين
وتبتسم من أجل الحرب لأنها كانت حقيقية لدرجة أنها احتفظت بجميع أصدقائك.

(2)
الباب أخضر، يدك التي تمتدّ إليه خضراء، وكنتَ ترى أنها خضراء وتضحك من أجل ذلك.
كنت تصعد السلّم إلى العليّة عندما سمعتك زوجة أخيك تضحك بهستيريا، وكان عليك أن تقنعها لتضحك معك من أجل كل الأشياء الخضراء التي امتلأ بها البيت على حين غرّة.
ولكن ما جعلك لا تكاد تتوقف عن الضحك هو الحمام الأخضر. كان يطير أخضر، يحطّ أخضر، وكنت تضحك لأن زوجة أخيك خضراء هي الأخرى ومع هذا لا يمكنها أن تطير ولا أن تحطّ ولا حتى أن تضحك من كلماتها البطيئة التي كانت تخرج خضراء.

(3)
طوال أيام وأنت تضحك، ثمّ قرّرت تصديق أن ما حدث لم يكن سوى معجزة، وبعد أيام أخرى حدست أنها ليست بمعجزة وحسب، بل هي رسالة عليك أن لا تتردّد في تبليغها.
وهكذا احتجت ليومين من التبليغ لتخسر كل أصدقائك الخضر.
ما تتذكره يا ممدوح هو الرجل الذي كان يتحدث عن ضرورة أن تتوقف تمامًا.
كان جادًا وأخضر أكثر من المعتاد، ولقد جعلك تخاف أول الأمر، ثم بعدها كان يظهر بسكين قصيرة وينبش كيسًا رقيقًا أبيض، أبيض قليلا ويتسلّل إلى أحلامك، يباغتها ويغرز النصل في كل الأشياء التي لم تكن خضراء بعد.
(4)
مكثت ثلاثة أشهر في غرفتك ولم تبرحها، كان نحيبهم يصل إليك، تشعر بهم يتجمعون خلف الباب ويصغون إلى حديثك عن كل الأشياء الخضراء التي لم يعرفها أحد كما عرفتها، وستتذكر دائمًا تلك السكين التي كانت تقشّر اسمك بدأب وصبر عجيبين، كانت تفتح جرحًا صغيرًا في ميم ممدوح، فتقرأه سمدوح، أو تمحوه تماما فتقرأه مدوح، وأحيانا تنبش ثقبا صغيرا وتطمر فيه الدال أو الواو ، وكنت تحدس أن الحاء وحدها لم تكن خضراء بما يكفي لتطمرها رغم كل الثقوب التي كانت تشبه فخاخًا كثيرة في الطريق إليك.

(5)
هل كان عليك أن تتركنا نتعقّبك؟
هل تشعر أننا سنصل أخيرًا ونستردّ كل الأشياء التي فقدناها؟
لم تعدْ تكلّمَ أحدًا ولا تشير إلى شيء ولا ترغب في النوم، ولم تعد تعرف الأحد والأربعاء والجمعة، وأن أسبوعك من يومين ويومك من أربع ساعات وسنتك لا تزيد على الشهر وأنك بدأت تشعر بالشيخوخة والهرم، وصرت تتحدّث مع أبيك كما لو كان آخر أبنائك الأحياء الذين فقدتهم في معتقلات الحرس القومي قبل 45 عاما.
وفي تاسع سنة خضراء صرتَ ترى إلى الجميع على أنهم ليسوا في حقيقة الأمر سوى كائنات خرجت من صلبك. إنهم ذريتك، أنت من أخرجتهم إلى هذه الحياة وأنك مسؤول عن الحروب الكثيرة التي تجعلهم يغادرون مبكرًا، كنت تحدس أن ميتاتهم لا يمكنها أن تستمر دون أن تمعن في تمزيقك، وكنت لا تجد أسبابا كافية لتجعل بعضهم قتلة وبعضهم الآخر ضحايا.
إنهم ذريتك في نهاية الأمر يا ممدوح.

(6)
الموت اليوميّ يجعل روحك تتثـلّم وتتفسّخ، وأكثر من كلّ ذلك كانت تدفعك إلى الصمت وإلى أن تتفرّس يما يمكن أن يكون قادرًا على فعله موت آخر فيك.
وحدث أن تحدّثتَ في شارع السدرة بكربلاء إلى جنديّين بصوت أخضر، وضحكت لأن أحدهما أخضر، وضحكتَ مرة أخرى لأن الآخر يشبهه تماما، ورغم أن الأمر يحدث مع الجميع إلاّ أن لهذا النوع من ذرّيتك شهوة إلى جعل الأشياء متماثلة حتى لا يكون في طاقة أحد تمييزها عن بعضها.
تطلّعا إلى سحنتك قليلا ثمّ دار أحدهما حولك. كنت تتحدث عن ضرورة أن يصدّقا أن الأشياء لا يمكنها أن تمكث لأكثر من لحظات على صورة واحدة، وعليهما أن يدركا أن الساعة كافية لتكون يوما كاملا وتاماًّ وأن اليوم بوسعه أن يكون أسبوعًا بقليل من التدبير، وأن قتيلا واحدًا يكفي لنشعر كلّنا بالموت.

(7)
بعد عشرة أيام كنت لا تزال حيّا، كانوا رجالاً من ذرّيتك تدفعهم شهوة القتل إلى ضربك وتدليتك منكوسا على رأسك لأيام. فكّروا بكل ما يمكنه أن يجعلك تصرخ وتعترف ولو لمرّة واحدة أن الألم ليس أخضر كما كنت تردّد بهدوء ووضوح.
ولكن الألم أخضر يشبه ذرّيتك يا ممدوح.
(8)
خرجتَ من (شعبة الأمن) وأنت وأن تفكّر بآخر الأشياء التي لا يمكن لأحد أن يصلها قبل أن ينجح في عزل بدنه عنه.
وهكذا ذهبتَ إلى الغرفة المهجورة ببيت البستان ومكثت طوال خمسة أيام تعزل بدنك عنك.
خلّصته يا ممدوح من كل الأشياء الخضراء التي علقت به منذ أحد عشر عاما. قشّرتها بصبر وجمعتها في أكوام صغيرة لا تكاد تُرى، حتى تمكنتَ أخيراً من رؤية أوّل شيء أحمر. كان أحمر تماما، أحمر كما لو أنه ما يزال أخضر.
وقبل المساء صار بوسعك أن ترى الأزرق والأبيض.
(9)
لم يعد هناك من يصغي إليك. كانوا سيصدّقونك بالتأكيد يا ممدوح وأنت تتحدّث للمرّة الأولى منذ سنوات عن أشياء بيضاء وزرقاء.
كنت تحتاج إلى من يسمعك تتحدّث عن كائنات قزحيّة تتطاير في الغرفة، بعضها يعلق على زجاجة المصباح قبل أن تسقط إلى الأرض.
بعد أسبوع وجدوك مقرفصاً في الزاوية، تحدّق في الفراغ، وسيتذكرون طويلا أنك كنت تبتسم أيضا.
لقد كان موتك آخر الفخاخ التي تقودنا إليك يا ممدوح.