الاثنين، أغسطس 09، 2010

أرقٌ أبيض

إنّه أنت، أعرفك من طريقتك الفريدة في النظر إلى الأشياء، لن تمنحك محاولاتك الكثيرة في الهرب سوى هيئة سائح ضلّ طريقه في مستنقعات سامة!


أعرف أنك قضيت أربعة أيام محموما في إسطبل مهجور قرب الفاو بانتظار سفينة شحن يقودها رجل من دارين، ومرة أخرى هدّدك دليلك البدوي ببندقية صيد وتركك تواجه مصيرك في الصحراء التي تمتدّ أسفل بحر النجف ومكثت أسبوعين تأكل الحرف البريّ حتى ظهر أمامك على حين غرّة دير لم يعرف بأمره أحد من قبل. دير مازال رهبانه يعدّون خططاً ومكائدَ حربية محكمة للإيقاع بجيش خالد بن الوليد ويتناقلون بجزع تخريبه ديارات شفاثا وكنائسها وعندما اقتربت منهم باغتوك بمنجنيقاتهم وسيوفهم وخوذهم وتروسهم اللامعة وصيحات الحرب القديمة. ولكنّهم صدّقوك أخيرا واحتفظوا بجواز سفرك بعدما مكثوا ساعات يتفرّسون فيه مأخوذين. وبعد يومين كنت تتجوّل في حقولهم الصغيرة وتتحدّث بحماسة عن طبيعة الرب يسوع.
كنت أحب أن أعرف إنك لم تكن تنم؛ لأن الهرب كان يقوّي ذخيرتك من الأرق. وكنت أحبّ أرقك، أحبّ الهالات الداكنة حول عينيك، وكذلك إشاراتك الواسعة وأنت تتحدث عما يمكن أن يفعله بك دليلك الجديد. يا إلهي كم كانت ليالي أرقك بيضاء وطويلة، كنت أرى إليك وأنت تخرج في الفجر بمعطفك الذي يجعلك تبدو مثل نبيّ متنكّر، ومرات وأنت لا تكتشف سيجارتك إلا بعد أن تحفر جذوتها أخدودا في لحم أصابعك.
إنك تصغي إلى صمتك، وأعرف أنك تضيء أحيانا، سيبدو تصديق هذا أمر غير محتمل، ولكنني كنت أصدّق أنك تضيء وأن ضوء أرقك الأبيض ليس سوى سطوعك. وأحببتك مرة أخرى، وعندما اندلعت الحرب، أعني تلك الحرب التي تلت الأخيرة كنت أصلّي من أجل أن يتسلّل سطوعك إلى ليالي أرقي الأبيض. وكنت أضيء من أجلك.
لقد تزوّج أخي منذ ثلاثة أعوام وفي آب الماضي صارت أختي الصغيرة أمّا للمرة الثانية، وأبي فقد عقله قبل نهاية الحرب ولم يغادر الملجأ منذ ذلك الحين. ومازلت أحرس وحدتك البيضاء وأرقك المضيء.
إنه أنت، أعرفك من طريقتك الفريدة في النظر إلى أعدائك على أنهم مخلوقات ليست مجنّحة تماما ولكنها قادرة على الطيران. أعرفك من الجلبة التي تسعى إلى افتراس صمتك، أعرفك من الحرب التي دخلت إلى غرفتك وسحبتك إلى الشارع، أعرفك من القتلة الذين يتربصون بك. أعرفك من رأسك الذي حفرت أرقه الأبيض سبع رصاصات.
قبل سنوات سمعت من صديق في (سوق الشيوخ) حكاية عن طفلّ كان يخوّض مع جواميسه في هور الحويزة عندما هبّت رياح شديدة كان يطلق عليها الأهواريون (الحمرة) جعلت القطيع يُصاب بالثول وهي تسمية محلية للحالة التي تجعل الجواميس تضرب في عرض الهور ولا تهدأ حتى تسكن الرياح. وبعد ثلاثة أيام كان القطيع قد بلغ مكانا لم يقصده أحد من قبل في الأهوار التي تنفتح على بعضها وتمتدّ لآلاف الكيلو مترات المربعة. حدث ذلك منذ أمد بعيد بلا ريب إذ أن الحكاية وكما هو شائع ومعروف في مثل تلك التي من جنسها تنتهي باكتشاف رجل معفّر مع قطيع كبير. وبالطبع فإن ذلك لا يحدث إلاّ بعد أن يكون والداه وأقاربه قد يئسا من العثور عليه وانتهى بهم الأمر إلى التسليم بموته رغم أن الحدس الأمومي يقوّي ذخيرة الأمل الضئيلة بفرص نجاته بين وقت وآخر، فإذا طرف مرمشها أو تعذّر عليها ابتلاع لقمتها أو دخلت سلحفاة إلى حوش الدار القصبيّ فسيكون السبب غالبا هو الابن. أما الأحلام التي يظهر فيها بهيئات وصور مختلفة فإنها حقائق تجعلها تتوفّر على أسباب كافية ليمتدّ بكاؤها أياما. وعندما يعود الصبي رجلا مع قطيعه، سيمكث أسابيع دون أن ينبس، وستعود أطباقه كما دخلت عليه، وسيبتسم أحيانا تلك الابتسامة الملغزة ليدفع عن عائلته الجديدة فرصة التفكير بمدى جدية المشاكل التي سيواجهونها إذا ما بقي معهم. وستكون الكائنات الصغيرة التي تحيطه وتتودّد إليه هي أكثر ما يدهشه. إنهم إخوته. أما النساء اللواتي يحاولن في الأيام الأولى إخفاء وجوههن عنه فهنّ أخواته.
وعندما سينسحب الجميع ويكون عليه مواجهة نفسه أخيرا فإنه سيتسلّل إلى حظيرة الجواميس وسيرى إن كانت هي الأخرى موضع افتتان عائلته وأقاربه. ستكون عزلاته التي مكثت طبيعة الهور القاسية لسنوات في تربيتها بصرامة مهدّدة بعشرات الوجوه التي تباغته بابتسامات عميقة، وسيتعيّن عليه ترديد المفردات التي اجتهد في تعلمها طوال الأيام الماضية لمواجهة مثل هذه الحالات.
هذه الحكاية التي لا نفتقد إلى سماع -وربما قراءة- أشباه لها سمعتها بعد سنتين من مكوثي مع دليلي البدوي بين نواويس منقورة في الحجر في الصحراء التي بأسفل بحر النجف وعليها كتابات بالحرف الأسطرنجيلي المقدّس لسريان الشرق وربما كانوا من نساطرة الحيرة أو من نصارى أياد أو تغلب.
حدّثني دليلي عن خرائب كثيرة وعن نواويس أخرى على مسيرة نصف نهار وأكّد أن بعض هذه الخرائب مازالت تحتفظ بجدران منقوشة من جنس هذه الكتابات وبعض سقوفها وحجراتها لم تفقد تصاويرها بعد. وبالطبع لامناص من تصديقه إذا عدنا إلى كتب الديارات ومعاجم أسماء الأمكنة فهي تدّخر في أحشائها عشرات الديارات التي كانت قائمة في هذه الأنحاء حتى عصور متأخرة. أنها ديارات نبط السواد الذين اندفعوا شمالا وفي أحيان أخرى إلى الجنوب بعد أن جرى تمصير مدنهم وفرض الجزية عليهم.
أثناء وجودي في رفحاء ومع المحاولات التي تواترت بصرامة لعزلنا. صرنا محض كائنات لا وجود حقيقي لها خارج ذاكرتها وكانت هذه أسباب كافية ليتدفّق الماضي في أخاديد عميقة فينا ولينتهي بنا الأمر إلى أن نكون كائنا هائلا متلاحما بذاكرة واحدة. وكان هذا من الأسباب التي جعلتني أستعيد بعد سنوات حكاية الأهواري المفقود والدير الذي عكف رهبانه على تجميع النبيط في قرى صغيرة وأحاطوا مستعمرتهم بسياجات وجدران منيعة.
لقد عاشوا أجيالا عديدة من أجل إدامة الرعب وتوريثه وجعله حيا وأبديا فيهم. وحينما عرفوا بتخريب أديرة شفاثا وبيعها التي يعود أقدمها إلى أحد حوارييّ المسيح وتحريق نخلها، دعاهم هذا إلى الانقطاع عن العالم في الصحراء وفعلوا كل ما من شأنه أن يضمن عدم التفريط بعزلاتهم وخروجهم على قداسة جثالقة الحيرة وأخذوا يتلقّون تعاليمهم من خلال منامات الآباء والحدس والمدد الربوبيّ. وإذا ما أمعنت بصري في عزلة الأهواريّ فإن الأمر سيقودني إلى تصديق إن المكان الذي بلغه مع جواميسه لم يكن معروفا ولم يطأ (تهله) أحد من قبل، وكان يعيش عزلة تجعلني أردّد:
- لاشيء يشبه عزلة الماء في الماء.
وهذا تماماً هو الشأن مع الدير والكائنات التي تدبّ في أحشائه وتفعل أشياء غامضة من أجل إدامة الرعب حيّا ومشحوذاً، ولكن وكما يحدث غالبا فإن الأهواريّ الذي عاد رجلا سيجد طريقة ليتخلّص من هذا الكائن الذي استيقظ فيه بغتة. وهو السبب ذاته الذي سيجعل الرجل الذي عاد من الدير مدفوعاً بذات الأسباب إلى أن يبتسم سبع مرات أمام بنادق قتلته.














أكتوبر 2006






-----------






هوامش:


1ـ بحر النجف: منخفض تشرف عليه مدينة النجف الحالية التي كانت من مستوطنات نبط السواد(وهم السكان الأصليون للعراق). يمتد حتى يتصل ببادية السماوة التي تصعد حتى صحراء النفود الكبرى.
2ـ سوق الشيوخ: قضاء يتاخم مدينة الناصرية التي استمدت تسميتها من ناصر السعدون أحد شيوخ قبائل المنتفق، وجرى تخطيط القضاء وتعميره في عهد مدحت باشا في نحو عام 1868.
3ـ جثالقة: ومفردها جثليق وهو المرجع الأكبر للكنيسة النسطورية في العراق والعالم.
4ـ التهل: مواد عضوية احتاجت إلى آماد لتتماسك وتكون بسمك يقرب من المتر أحيانا وتطفو على سطح الماء ويبتني عليها الأهواريون بيوتهم القصبية.