الجمعة، يوليو 30، 2010

قراية (8 )

الجمعة 14 أبريل، مقهى (V&D) ومشغل برنارد.





لا يجب أن نترك الغريب نهباً لنسياننا.
هذا ما كان يردّده جدّي أحد أكبر مشائيّ عصره كلّما أشرفنا على مرقدِ الحرّ بن يزيد الرياحي. في تلك السنوات لم يكن المكان المحيط بالمرقد مأهولاً إلاّ ببعض بيوتات القيّمين عليه والكليدارية* الصغار، وهم في الغالب من أرياف السوادة والشريعة**.
جدّي الذي كان يقطع بنا الطريق من (شير فضّة) إلى (الحرّ) مشيًا في نحو ساعتين، كان يخرج إليه طوال الطريق فلاّحون ضامرون ونسوة متّشحات بالسواد، يأتون بمرضاهم ونذور قديمة، وبمشاكل عالقة منذ أجيال.
أمّا نحن فكنّا محض أيقوناتٍ حيّة، يتدافعون من أجل رؤيتنا، ويحرصون طويلاً على أن نكون مكشوفين أمام نظراتهم حتى جهتنا الأخرى، وكأننا سنموت قبل أن نصل مرقد الغريب. ودائمًا كنا نصل وقد ألتحق بنا العشرات من فلاحي القرى التي تنتشر على جانبي نهر الرشدية. وعندما ندخل أخيرًا مقام الحر الرياحي، كنت أقف مبهوتًا أمام قدرة جدّي التي لا يمكن أن يكون قد أعدّ لها، فمبجرد أن يلامس صندوق مقام الغائب حتى تخضلّ لحيته بالدموع.
أمّا نحن، أيقونات الوليّ الباكي، فكنّا نتبع الكليدار بصمتٍ إلى حيث باب قبلة المرقد، ليشير بثبات إلى شاهدة صغيرة ويقول بصوت يحرص على أن يصلنا بوجل وبطء:
- هنا يرقد أسلافكم، وهنا سيرقد ذات يوم جدّكم..
ثم يتطلّع إلينا طويلاً قبل أن يردف:
- وكذلك أنتم.






-------


* الكليدار: مفردة ترِد في المعجمية الفارسيّةِ كأصل، وفي التركية والعربية للدلالة على كبير القيّمين في المساجد والمراقد.


** الشريعة والسوادة: قرى وأرياف كبيرة وقديمة، تقع إلى الجنوب من بحيرة الرزازة في كربلاء.