الجمعة، أغسطس 06، 2010

موتُ بستان بعيدًا عن بئْرِ القدّوسة

اتركوني ألمس حافة البئر..
اتركوني استرجع شال الطواويس وأقسم بأنني سأراكم في (السعدية) قبل هبوط الظلام..
دعوا يدي تلمس غيابها ..
قال بستان موجهًا كلامه إلى الرجلين اللذين يصغيان إلى بعضهما ولا يتكلّمان البتّة.
ورغم المحاولات التي بذلاها لم يتزحزح عن حافة البئر قبل أن يستردّ بعضًا مما بقي منها في ذاكرته.. بل لقد كان يفكّر في إمكانية أن يستردّها من ذاكرة الجميع ويستردّ نظرتها من جميع الأشياء التي وقعت عليها.
وبعد أن يئس الرجلان تركا بستان فريسة لمزاجه الحاد قرب البئر التي كانت قد طُمرت تماما بالحجارة الضخمة والطابق الفرشي الذي أخذ متطوّعون يجلبونه من سوق الزينبية إلى باب الطاق ليكملوا دفن قرّة العين.
بعد يومين تذكّر محسن النقيب أنّه شاهد أثناء طيرانه وقبل أن تلوّح له المرأة من نافذتها رجلا نحيلا يجلس قرب بئر القدّوسة, وبعد رجوعه إلى جناح الجوشن الكبير سأل عنه, فقيل له أنّه بستان الرجل الذي جاء من (شط ملّة) ليكون قرب قرّة العين , وبعد مقتلها لم يعد يفارق البئر أبدًا رغم تعرّضه لسخرية العابرين وأحيانا لركلاتهم الموجعة, بل لقد قاده رجل بلحية كثّة وعمامة بيضاء صغيرة إلى (الأمام عون) وربطه إلى صندوق القبر من يديه وقدميه بأمر من الكليدار .. وما أن حلّ صباح اليوم التالي حتى وجدوه ثانية قرب البئر يخاطب قرّة العين بصوت يرتعش من فرط الجوع :
ـ انهضي أيّتها القدّوسة واركضي بقدميّ . إنّ دانيال لم يجد لخاتمه إصبعا يليق به كبنصرك, والغائب ذاته يكفّ عن موته كلّما تطلّع إلى حضورك فيه .
عندما شاهد ( حجّي حنّوف ) و( رضا العطار ) ما يفعله بستان بنفسه أخذاه بالقوّة بعد أن استعانا برجال بعثهم الكليدار لهذا الغرض, صرخ بستان :
ـ إنه الوقت يا حجّي حنّوف .
فأجابه الحجي: خذ ساعتي ذات الأشرعة واستعن بها عليه. ثم وضعها في جيبه.
التفت بستان إلى رضا العطار وصرخ ثانية :
ـ إنّه خاتمها يا عطّار
قال العطّار: خذ خاتمي ذا الفصّ الصيني واقرأ عليه ( ناد عليا مظهر العجائب تجده عونا لك في النوائب ) وسيريح الله قلبك, ثم دفعه إليه. وأركباه (الربل) إلى شط ملّة.
بعد خمس محاولات للهرب والعودة إلى كربلاء قرّر حجي حنّوف وبعض أهالي القرية ربطه إلى نخلة تتوسّط بيوت القرية ليكون أمام الجميع .
حدّث رجل من عين التمر قائلا:
حين ترك إبراهيم العيني حجر حفنة وقصد خان النخيلة, شاهد قرب بئر القدّوسة وهو يحوم في طيرانه حول كربلاء رجالا بعمائم ملوّنة يقتادون رجلا ضامرًا بالقوة إلى مؤخرة (ربل) يقوده جوادان , وبسرعة استطاع أن يعرف أنّه بستان فلطالما حدّثه محمد زمان عنه عندما كان يرشده كيف يعزّم على حروف حجر حفنة ليجد الحرف الضال قرينه ويتعانقان في طاسة الغيب .
أنتظر إبراهيم حتى خرجت العربة من الباب الجنوبي لسور كربلاء وأخذت تنهب الطريق باتجاه شط ملة فهبط حتى صار قريبا منها وأخذ يشاكس حجي حنّوف ورضا العطّار اللذين أخذا يصرخان مرعوبين أوّل الأمر ثمّ تمالك الحجّي نفسه وصار يبسمل ويقرأ المعوذتين , غير أن إبراهيم العيني كان يطير بمحاذاة الحصانين ليخيفهما وكلّما لمسهما, صرخ الحجي بأعلى صوته ( قل أعوذ برب الفلق من شرّ ما خلق )
يئس حجّي حنّوف من الجنّي الطائر وتركه يهبط في مؤخرة العربة قرب بستان الذي لم يبدُ عليه الاكتراث, ثمّ خاطبه :
ـ هل أفكّ قيدك ونطير معا إلى عين التمر, هناك سيكتب لك محمد زمان حرزًا بالحبر الزاجي إذا زوّجتَ نونه بهائه لا تلمس قدماك الأرض أبدًا .
غير أن بستان كان يراقب منائر كربلاء الذهبية وهي تستدقّ وتصير كالخيط المشتعل قبل أن تذوب .
لم يكن يأكل شيئا أبدًا, وحتى تلك المحاولات التي بذلتها أكثر نساء القرية فتنة والتي امتدحها الحجي أمام أم بستان لم تفلح في حمله على منح الطعام ولو نظرة، فلقد كان منهمكا في تكريس نفسه وضغطها في المجال الذي تعبره النظرة وهي في طريقها إلى طاسة الغيب, وكل ما كان يفعله طيلة النهار, أن يتوسل إلى سيد يحيى الشخص الوحيد الذي يمتلك قلمًا في شط ملّة ليمنحه إياه وكواغد سمراء, ومنذ أن منحه سيد رضا قلمه لم تنقطع مناجياته ورسائله إلى قرّة العين.
ثلاثة أسابيع لم يلمس الماء جسده, كان يقول أن الماء يمسح أثر نظرتها عن بدني , ومرات أخرى يجعله العطش وجفاف أمعائه يتلوّى تحت النخلة .كان يعتقد إنّ الماء عندما يخرج سيخرج معه أثر أنفاسها التي ذابت في الكأس قبل أن يشربه .
في فجر أحد الأيام الباردة التي كانت تميّز القرية وبعد أن تنضح حقول العنبر شذاها , قاد هتاف باطني حجي حنوف ورضا العطار وحملهما منوّمين وطاف بهما القرية حتى لمست أقدامهما كتف الشطّ , وتطلّعا معا إلى الجسد النحيل والهادئ وهو يقرفص تحت جذع النخلة..
أقترب الحجي منه وهمس في أذنه : بستان .. بستان
لكن بستان كان يبدو عليه كمن أدرك على حين غرّة أنّ هدنة طويلة انتهت وهو بين أعدائه.
رفع الكواغد ببطء من فوق الجسد المفتون بوحدته الحادّة ثمّ التفت إلى العطّار قائلا :
ـ هل سندفنه هنا ؟
كان بستان يقرفص بحيادية كاملة وكأنه أنجز آخر شيء طُلب إليه في حياته ـ كانت نظرته ثابتة وهي تمتدّ باتجاه حقول العنبر ، حتى أن الحجي لم يستطع مقاومة الأغراء في متابعة النقطة التي تتشتّت فيها النظرة , بل شعر فجأة ودون أن يجد تعليلا لشعوره هذا إن بستان دخل في نظرته ذاتها ونقل نفسه في ندائها الغامض إلى أبعد ما يمكن أن تصل إليه طاقتها .
ـ هل سندفنه هنا يا عطّار ؟
لكن رضا كان يتطلّع إلى النخلة وهو يمسك خاتمه ويتفحّص فصّه الأسود ولا يبدو عليه أنه سمع كلام حجي حنوف الذي استدار إلى جسد بستان الناحل وهو يتمتم :
ـ نعم, هنا تحت النخلة في المكان الذي ستبعث فيه القدّوسة لتعانق جسد الغائب

 
 
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق