السبت، يوليو 31، 2010

بحث في أصل تسمية مدينة رفحاء

بحث في أصل تسمية مدينة رفحاء

رفحاء اسم لمدينة سعودية تقع ضمن إدارة إمارة عرعر في شمال شرق المملكة وسبق لي أن مكثت فيها قبل سنوات، أما بخصوص هذا البحث فلقد أنجزته قبل ثلاث سنوات ، واهديه إلى صديقي الرفحاويّ الحميم )همّام) الذي كان لطيبوبته الكبيرة أثرها البالغ في نفسي .
يتداول أهالي المنطقة إن رفحاء اسم لامرأة سكنت مع ذويها قرب جبل فأكتسب الجبل تسميته منها. وأكدوا أنها تكتب بطرق مختلفة تتحرّك بين ( رفحاء و رفحا و رفحه ) وكان لتأكيدهم هذا أهمية بالغة كما سنرى لاحقا.
كما أورد العلاّمة حمد الجاسر في معجمه الجغرافي رأيا حول أصل تسمية المدينة مفاده ( اسم لبئر، وكان من قبل لقويرة صغيرة ، ثم أضاف ذات التأكيد السابق من إن اسم رفحاء يعود إلى امرأة كانت تقيم قرب جبل يقع في شمال غربي المدينة ولاحقا انتقل الاسم من الجبل إلى المدينة التي أنشئت قربه فصار اسم المدينة رفحاء )
هذا هو كل ما طرح بشأن أصل التسمية .
ومعروف إن تسمية المدن بأسماء الأعلام ليس جديدا فكلّنا نعرف إن الإسكندرية إنما أنشئت في عصر البطالسة وهم خلفاء الأسكندر المقدوني ولقد سميت على اسمه وكذلك الأمر مع مدينة الإسكندرية في العراق قرب بابل، إذ كما هو معروف تاريخيا إن الأسكندر توفي في بابل بعد عودته من فتوحاته في آسيا الوسطى ، وبابل ذاتها إنما سميت باسم أله سامي قديم ) باب أيل ) وتعني باب الله، وتكريت إنما يرجع اسمها حسب الإخباريين العرب إلى امرأة عربية أقامت في هذه البقعة من الأرض، بالرغم من أن مفردة تكريت هي مفردة آرامية _سريانية أصلها ( بيث تاكورتا ) أي بيت التجار لأنها كانت تقع على طريق تجاري قديم فأتخذها التجار مكانا لإقامتهم ،( رغم أن هناك رأيا ثالثا في أصل تكريت يرجّح اكديتها ). ومدينة الأعظمية نسبة إلى أبي حنيفة ( الأمام الأعظم ) ، وذات الأمر مع تسمية السعودية نسبة إلى آل سعود الذين بدأوا في عمل جسيم بتوحيد المدن والأرباض ابتداء من قرية الدرعية التي تقع أطلالها قرب الرياض .
وأرى إلى أن مجموعة من مدن المنطقة الشمالية الواقعة ضمن حدود إمارة عرعر وما جاورها التي تنتهي بألف مطلقة إنما ترجع في امتدادها الزمني إلى تلك العصور، لأن ألف الإطلاق في بعض اللغات السامية (الجزيريّة ) القديمة تناظر أداة التعريف في اللغة العربية .. وأسوق مثلا لذلك أسماء المدن والمناطق التالية :
( لوقا ) : وهو اسم علم لاتيني قديم ربما يكون اختصار ( لوقانوس أو لوكيوس ) وكان معروفا في شمال الهلال الخصيب ، وأيضا منطقة لينا ومنطقة بدنا وبئر الحبقا ، وهذه الأمكنة كما تشاهدون تنتهي بألف مطلقة ، وهي علامة التعريف بالآرامية والسريانية .
ومن الضرورة بمكان التأكيد على إن موطن الأقوام الآرامية قبل هجرتهم إلى شمال الهلال الخصيب يقع في المناطق موضع بحثي هذا اليوم كما يؤكد علماء الساميات والآثار والحفريات وهي الهجرة الثالثة من الجزيرة صعودًا باتجاه الشمال والشمال الشرقي.
وأرجع الآن إلى أصل مفردة رفحاء فأقول، إنني ورغم بحثي المتواصل في المعاجم العربية، لم أجد أثرًا للجذر الثلاثي لهذه المفردة ( رفح ) سوى ما ذكره ابن منظور في (لسان العرب) وكتاب (النهاية) لأبن الأثير و(العباب واللباب) وبعض المعجمات الأخرى التي تناولتْها بتفصيل أقل أهمية.
وترد المفردة في الحديث ( كان عليه السلام إذا رفّح إنسانا قال بارك الله عليك ) وفي حديث عمر رضي الله عنه لمّا تزوّج أم كلثوم قال : رفّحوني رفّحوني .. أي قولوا لي ما يقال للمتزوّج . وهذا المعنى الذي عالجته معاجمنا لا يؤدي الغرض اللازم لمعرفة اسم المدينة الحالي الذي ارتبط باسم علم لفتاة أو اسم لبئر.
عندها فكرت بمعالجة المفردة من خلال المعجمية السامية ( الجزيريّة ) وقبل أن أفعل ذلك أردت أن أعرف كيف نطقت تلك الأقوام التي سكنت شمالي الهلال الخصيب مدينة ( رفح ) والتي تقع كما لا يخفى عليكم في فلسطين : ففي الكنعانية نطقوا رفح بـ ( رفيا ) وفي العبرية ) رفّيح ) وعند الأشوريين ( رفيحو ) أما عند قدماء المصريين _ الفراعنة _ فلقد نطقوها ) روبيهوني ) ونطقها اليونان ( رافيا ) ، وما أردت الوصول إليه من هذه العملية هو رؤية مدى الاختلافات في نطق الجذر (رفح ) بين هذه الحضارات من خلال تعرّضها للإقلاب والإبدال والأثر الذي تركته عليه.
ومعروف إن أقواما عديدة كانت تنقل أسماء مدنها القديمة في مواطنها الجديدة التي تنتقل إليها . وهذه الحالة لا تختصّ بها جماعات سكانية دون أخرى فلقد عرفتها الأقوام القديمة كما عرفتها الأقوام في العصور الحديثة وتكون في الغالب متزامنة مع الهجرات السكانية الكبرى أو الغزوات والفتوح . فـ ( كربلا ) مثلا مدينة آشورية وأن واحدا من أسمائها نينوى ، ونينوى هي إحدى عواصم الأشوريين وتقع في شمال العراق ولكن البعض من الآشوريين الذين استوطنوها أرادوا أن ينقلوا جزءا من ذاكرتهم معهم، فكان أن نقلوا اسم عاصمتهم إلى المدينة الجديدة التي حلّوا فيها .
ومن الأمثلة الحديثة على هذه الظاهرة ما نشاهده في مدينة نيويورك حيث أنها تعني ( يورك الجديدة ) لتذكّر المهاجرين الذين استوطنوها بمدينتهم القديمة ) يورك ) الانجليزية ، وكذلك أحد أحيائها المعروف باسم "هارلم" فهو اسم لمدينة هولندية عريقة ، والأمثلة على ذلك كثيرة.
وعلى المستوى الشخصي استبعد هذا الافتراض لعدم شيوع مفردة رفحا في المصادر التي تناولت صفة الجزيرة وأمكنتها رغم كثرتها ورغم العديد من الخرائط التي توفّرت عليها بقصد إرشادي إلى السقف الزمني لهذه التسمية ، ولكني قد أتناوله في سياق أخر ومن زاوية لسانية مقارنة إن شاء الله.
وهناك احتمالات أخرى لأصل مفردة رفحاء عالجتها من خلال ما يسمّى في فقه اللغة بـ ( القلب والإبدال ) بأنواعهما.
أول من منح الإقلاب مصطلحا مستقرا كفنّ اشتقاقيّ في اللغة العربية هو أبو الفتح بن جني في كتابه الخصائص وسمّاه ( الاشتقاق الأكبر )
ولكن أول من عمل به كان أستاذه أبو علي الفارسي ، إذ كان يستعين به على معرفة أصول الكلم ، أما الفراهيدي فأنه استعمل في كتابه (العين) أسلوب تقليب الجذر الثلاثي على وجوهه الستة والإشارة إلى المستعمل منه في كلام العرب وكذلك إلى المهمل أي الذي أهملته المعاجم العربية.
فمثلا مادة ( كلم ) فيها خمسة تقاليب مستعملة وهي ( كلم ، كمل ، لكم ، مكل ، ملك ) وجميعها تدلّ على القوّة والشدّة أما تقليبها السادس ( لمك ) فقد أهمل لأنه لم يأت في ثبت.
وذات الأمر مع مادة ( رفح ) فتقاليبها المستعملة هي : ( رفح و حرف و فرح و رحف و حفر ) وفيها تقليب واحد مهمل وهو ( فحر ) وهي تدلّ على التحوّل والتبدّل من البعد والتفرّق إلى الجمع والالتئام.
فرفح الحاء فيها مبدلة عن الهمزة ، أي رفأ والرفاء هو الالتئام والاتفاق والبركة، ورفأ تزوّج والزواج هو الالتئام الذي يحصل بعقد يشتمل على القبول والإيجاب بعد التفرّق والبعد أما ( حرف ) فهو الطرف والجانب و به سمّي الحرف من حروف الهجاء ، فهو لا ينبذ ما فيه من بعد إلا إذا جمعته الكلمة بين ثناياها فيصبح دالاّ على الشيء باجتماعه مع غيره، من البعد والافتراق إلى الجمع والالتئام وكذلك ( حفر ) فالحفر هو مفارقة السطح إلى العمق، وفي العمق تكمن فائدة الحفر بالوصول إلى الماء، وهنا يصنع الحفر الماء الذي هو البركة . و (الفرح) هو مفارقة الحزن والابتعاد عنه إلى الجذل والبهجة التي فيه . أما (رحف ) فعن ابن الأعرابي :" أرحف الرجل إذا حدّد سكينا أو غيره ، يقال ارحف شفرته حتى قعدت كأنها حربة " أي صارت ، ولا بدّ من أنكم لاحظتم التبدّل الذي تحيلنا إليه صيرورة السكين إلى حربة ليمنح السكين حالة أخرى من التماسك والقوّة لما اجتمعت به الرهافة، ويرى الأزهري إن الحاء في أرحف مبدلة عن الهاء والأصل أرهف ، وسيف مرهف ورهيف أي محدّد.
و أودّ في هذا المقام التأكيد على إن ظاهرة الإقلاب، ظاهرة سامية (جزيرية ) ولا تختصّ بها العربية وإن كانت أكثر غنى وأقدر على الاشتقاق والتوليد ، فمثلا إن) معدي كرب ) اسم علم مركّب تركيبا إضافيا وهو جملة اسمية تامّة تعني في العربية الجنوبية ( غنيمتي بارك ) وهو خطاب موجّه إلى الآلهة لتبارك ما يغنمه من أعدائه . وهنا نرى أن مفردة كرب أدت معنى ( برك ) وهو جذر المباركة بالإقلاب اللغوي ، وكذلك الأمر مع مفردتي : ( جذب و جبذ ) بمعنى سحب و ( اضمحلّ و امضحلّ ) وكلّها تؤدي ذات المعنى أو من ذات الوحدة القرابية بين المعاني.
وهناك أيضا ما يعرف بالإقلاب الذي تتوافق فيه لغتان وأحيانا أكثر كما في العربية والعبرية أو العربية والآرامية والآرامية والأشورية
فمثلا مفردة سوسن يقابلها في الأكدية ( سسنو )، ومفردة أسار وهو القيد في العربية يقابلها في الآرامية ( اسرا )، ومفردة ركع تقابلها مفردة ( كرع ) بالعبرية وتؤدي معنى الركوع أيضا.
أما الإقلاب بأسماء المدن والأمكنة فسأكتفي بمنطقة عسير، فهناك مكانان مقلوبان عنها وهما ( سعير ) في وادي ادوم, والمكان الآخر بذات الاسم أيضًا ( سعير ) وتقع في جنوبي منطقة الصحن التي تتصل بالمعانية وتقع في أقصى الطرف الغربي من بادية السماوة وتمتد إلى حتى تتصل بأقصى الطرف الشرقي من صحراء النفوذ حيث تقع رفحاء . وسعير وعسير مفردتان تعطيان معنى الشدّة والعسر، وربما سمّيت سعير بهذا الاسم لحرارتها اللافحة .
أخلص من كل هذه الأمثلة ومختلف الظواهر اللغوية والجغرافية التي حاولت بيانها ، ومن أسماء جمهرة واسعة من أسماء المدن والأعلام والألفاظ في المعجمية العربية والسامية . إن مفردة ( رفحا ) هي مقلوب مادة ( حرف ) والألف قد تكون من بقايا لغوية كانت شائعة في هذه المنطقة ، كما رأينا في مناطق لوقا وبدنا وبئر الحبقا المجاورة لها ، ولا استبعد أن تكون موازية لألف ولام التعريف كما وضّحت من قبل.
أما كتابتها مع إثبات الهمزة في نهايتها أي ( رفحاء ) فهو لزياة تفصيحها وتعريبها كما هو الأمر مع مدينة تيماء التي نطقها الآراميون ( تيمو ) وعثر على صيغة أخرى لنطقها في الكتابات التدمرية وهو (تيمي ) وذات عملية تفصيح أسماء المدن القديمة يمكننا أن نلمسه في اسم مدينة ( الوركاء ) التي كان اسمها في الكتابات السومرية والبابلية القديمة ( أور و أحيانا أوروك(.
إن جذر ( رفح ) وبعد إخضاعه لمبدأ القلب اللغوي في علم الاشتقاق استخرجنا منه جذر ( حرف ) الذي يعني الطرف والشفير والحدّ ، ولا يؤدي الحرف معنى الجانب وحسب بل وأيضا الوحدة والتفرّد . ففي قوله تعالى ( ومن الناس من يعبد الله على حرف ) الحج -11 ، أي على وجه واحد , وفي معنى التفرّد الذي تحيلنا إليه المفردة فسأضرب مثلا بالجمل ، إذ إن الحرف من صفات الناقة ففي كتاب الإبل يذكر الأصمعي إنها الناقة المهزولة ويرى الصغاني في كتاب العباب الزاخر إن الحرف هي الناقة الضامرة تشبيها لها بحرف السيف ، وكذلك الناقة العظيمة يشبّهونها بحرف الجبل أي طرفه ، وفيها قول لذي الرمة :
جماليّة حرف سنادها يشلّها .... ( الديوان 1 _ 471 ).
وكما ترون فأن هذه الصفات تشمل الناقة إذا تفرّدت في نعت ووصف مخصوص بها.
كذلك أريد أن أشير إلى إن رفحاء شهدت أحداثا تاريخية كبيرة وتعاقبت عليها أقوام عدّة. ففي عملي على الأطلس التاريخي الذي أعده الدكتور حسين نصّار والبحث القيّم الذي أنجزه الدكتور طه الهاشمي قبل نحو نصف قرن ومن خلال متابعتي لسير الجيوش الإسلامية أبان حرب الفتوح استطعت أن أتبين مرور مجموعة من الجيوش والسرايا خلال الأرض التي تشغلها رفحاء. ولوجود آبار الماء في (قارتها ) أي في حرف جبلها الذي يقع في شمال غربي المدينة ، فليس من المستبعد أبدا أن تكون الجيوش التي قطعتها قد أقامت لبعض الوقت وتزوّدت بالماء قبل متابعة مسيرها، خصوصا وإن الوصول إلى رفحاء كان قد تمّ بعد أن قطعت جزءا كبيرا من صحراء النفود الكبرى . وبإمكاني التأكيد على إن الجيش الذي خرج به سعد بن أبي وقاص يريد العراق قد مرّ بها، وكذلك جيش خالد بن الوليد بعد عودته من الأنبار لفتح دومة الجندل ومن هنا نشأت التسمية، أي من الآبار التي تقع في حرف الجبل. ومع تقاطر السنين والألسنة والأقوام ومع عمل المخيال الجمعي والذاكرة الشعبية تحوّلت المفردة من حرفا إلى رفحا بالإقلاب الموضعي الشائع لتصبح اسما لفتاة بارّة بأبيها.
ولكي أدفع الرأي الذي ذهبت إليه سأقوم الآن بتعزيزه جغرافيًا، فكما علمنا إن الحرف هو الطرف والجانب، فسيكون لموقع رفحا منذ القدم في طرف ( حرف ) الحيرة وأحلافها، أي لخم وشيبان وتمتدّ أحيانا لتشمل بكر وربيعة ربما بعض الأثر في نشوء التسمية، كذلك فأن رفحا تقع في طرف الجزء الشمالي الشرقي لصحراء النفود، كما إن موقعها يجمع طرفي الباديتين الكبيرتين السماوة والشام، والطرف كما رأينا هو الحرف والجانب والحدّ .
والرأي الثاني الذي أذهب إليه في أصل تسمية رفحاء تكوّن مع بداية بحثي في معنى مفردة (رفحا) فافترضت إنها قد تكون اسما لنبات من نباتات البرّ والبوادي، فأخذت أراجع المصادر الأوربية والعربية سواء الحديثة والموروثة، وللأسف لم أقع على اسم نبات له شبه بجذر (رفح) ولكني وقفت على نبات آخر معروف وهو ( الحرف ) بضمّ الحاء وقرأت عنه ما توفّر لديّ من معاجم وكتب النبات والطب، وقالوا في صفته: الحرف هو حب الرشاد، وأضاف الأزهري انه حب كالخردل، أما ابن سينا فقال عنه انّه شديد الحرافة، والحرافة هي الطعم الحار اللاذع، وذكر معلومة وجدتها تقترب بعض الشيء مما أريد إذ أكد إن الحرف نبات ينمو في البرّ ويستخدم في تركيب علاجات كثيرة للشعر المتساقط وللورم البلغمي ويستعمل مع الماء والملح ضمادا للدماميل وهو ينفع من عرق النسا .
و هذا النبات مما ينتشر في رفحاء و برّها أو ما جاورها من مناطق وأراض بكثرة مما عزّز الرأي الآخر الذي ذهبت إليه من إن الأصل في تسمية رفحا قد يكون من الحُرف خصوصا وأنّ معاجمنا تخلو ـ تماما ـ من هذا الجذر بالمعنى الذي يدلّ على المدينة.