الجمعة، أغسطس 06، 2010

أرض البتولة

من خلف هذه السكينة الشاملة , السكينة التي تشبه أصابع مدربة على اللعب بالزمن والأبدية كنت أراقب صمته المبلّل بنظرات قلقة تجوب المكان.
كان يقف بشكل مباغت أحيانا, يدنو من النافذة الواسعة ويحدّق خللها إلى الامتداد الفارع لشارع (اودين كاتين) حتى يصل إلى (اودين بلان) وأحيانا أخرى يعكف على صمته وكأنه يربّي كائنات غامضة لا تُرى
كنت أحدس ريبة أمين القسم من هذا الرجل ذي المزاج الكامد. أنه يرتاب فيه بشدّة.
أشعر بجسدي يهفّ إليه , ولولا خزانات الكتب وأدراجها الواسعة لتقطّعت منازل حروفي وأعدادي وطرت باتجاهه .
ألم يكتشف وجودي بعد ؟ ..
ألم يفضحني هذا الصخب العنيف الذي ينبعث مني ؟
إنّه كائن مطرق أبدا.
أنتمي إلى جسدي وحده , أشعر بستوكهولم وكأنها غير قادرة إلا على جعلي متوحّدة ومهجوسة ببهائها الفاسد . إنها صورة للتوحّد الأعزل وحيل البنائين القدامى الذين أرادوا للغزاة أن يموتوا في متاهاتها وطرقها ومسالكها المتشابهة
وها أنا منذ سنوات لا أرمي فيها إلا لمعرفة عدمي
لم أكن أعرف أن الغائب حينما منحني خاتم دانيال منحني كذلك القدرة على النظر إلى القوة التي تكمن في الأشياء وهذه القوة هي التي جعلتني أعرف أن ( بستان ) كان يترك إناء الماء أمامه طيلة ساعات لتذوب أنفاسي فيه ..
كان يجلس في آخر صفّ ويرمقني بطريقة تجعلني أرتجف تحت عباءتي الواسعة ..
أحيانا أشعر بجسدي وكأنه يريد أن يتبدّد ويموع ويدخل الزوايا الصغيرة وشقوق القرميد .
كنت أخاطب الغائب ليرشدني إلى التخلص من مكيدة الحب التي ترسمها يد شبحية, حتى إنني كنت أفزّ من نومي وأنا اردّد اسم بستان رغم إنني لم أره ولم أسمع به بعد.
وحين أغادر في الصباح إلى مدرسة السلطانية كنت أقضي وقتا طويلا بتفادي مكائد السحرة وأعمالهم التي يعكفون ساعات على صنعها في أقبية شير فضة وباب الطاق.
كنت أشمّ روائح لبان ذكر وميعة سائلة وندّ وصندل واقرأ أوفاق وطلاسم تبدو وكأنها من بعض أحجار الطريق المبثوثة بإهمال , بيد إني أعرف إنها وجدت بفعل فاعل وأنني أنا المعنيّة من فوضى الأحجار والروائح هذه .
وأحيانا أخرى أبصر طريقي بمشقة من خلف النقاب الأسود الثقيل فأضطر للتوقف مرات حتى أتبيّن إنْ كان الحجر أو البيضة التي تكاد تنهرس تحت قدمي مما يجب أن أتفاداه أم لا ؟
ولكن ماذا أفعل باليد التي تبعثر أعدادي وتتركني أعدو خلفها كالأعمى الذي يدفع عن نفسه هجوم أفعى ميتة . فكلّما أوشكت أن ألمس حرفا أو صفة من صفاتي وجدتها تعدو نحو بستان وتذوب في طاسته التي أمامه .
... ها أنا الآن أعاني من هذا الجسد الذي يمارس حلوله العنيد في جسدي ومن هذا الاسم أحبه أحيانا وأتجنبه أحيانا أخرى .. كنت سلمى وهاهم الجميع ينادونني ( أزل ) لا أشعر بالغبطة منه, ولا أكرهه أيضا ولكنني أواجهه كلّما صرخ بستان في حروفي .
إنه يغادر المكتبة ولم يلتفت نحوي ,
ماذا أفعل بهذه الكائنات الغامضة التي تقودني إليه ....
.. سأخرج وسأجد ذات الشوارع أمامي، ذات الحيل القديمة وكأنها خارطة كرّرت نفسها لمئات المرات .
سأنتظر الباص رقم ثمانية عشر , وسأتذكر مثلما أفعل كلّ مرة أنّ هذا العدد يساوي حروف الحيّ , وسألمس بنصري كما يحدث دائما لأنه يذكّرني بخاتم دانيال الذي منحني إيّاه الغائب, وسأصعد وأهبط, وأصعد باصا آخر وأهبط أيضا ثمّ أصعد سلالم طويلة إلى غرفتي في الأعلى ولا أهبط إلا صباح اليوم التالي .
لا مكائد سحرة في ستوكهولم لأتفاداها, ولا لبان ذكر ولا بخورات تشبه روائحها الروائح المنبعثة من سراديب شير فضّة
أمشي باستقامة ولا أضطرّ للوقوف لأتبيّن من خلل النقاب أحجار الطريق وأحب المرور في شارع وساحة ( اودين بلن ) والوقوف أمام واجهة العطار الصيني والنظر إلى أعشابه الغريبة وزهوره العطرية
ـ ولكن هل قال شيئا عني ؟
فاجأت أمين القسم الذي لم يبدو عليه الفزع مثلما كان يعتقد في نفسه حينما توجّه هذه الغريبة سؤالها إليه :
ـ نعم .. قال أنّك القدّوسة, وأنه بستان أو سلوان, لم أعد أتذكر تماما, وقال بأنك تستجمعين بهاءك لتنقضّي عليه .
أنحرف بصرها قليلا نحو النافذة الواسعة وتمتمت قبل أن تهبط السلّم بصوتها الذي سوف لن ينساه أمين القسم لسنوات عديدة قادمة:
ـ ولكن هل قال لك أن أحدنا سيموت هذه الليلة ؟





لاهاي 2002