الجمعة، أغسطس 06، 2010

في المدينة ومخلوقاتها

منذ الأمس وأنا أناور الحمّى بإخوان الصفا، لم يتحدّثوا عن عمودية الوجود ولا روح الجمادات ونفوس الأجرام والحصى ، بل عن (القفّاصين) : صانعوا الأقفاص، ثم راجعت القائمة التي أعدوها عن الحرف والصناعات، ولم أجد ( الطيوري ) بائع الطيور، بل أنّ من ذكره كان الدينوري، الرجل الذي لم يتحدث عن صانع الأقفاص أبدًا، وكأنه أراد أن يسخر من أخوان الصفا ويطلق الطيور بعيدا.
حُكي عن رجلٍ يعمل طيوريا قرب مقام الغائب على نهر "الرشتية" أنه أنصت لغريب من الجنوب وهو يتحدّث عن طيور قزحية تتكلّم بثلاث ألسنة وأنّ في عظامها وريش قوادمها خواص خارقة إذا أحرقت مع الكندر ولبان الذكر في بخورات الاثنين .
وهكذا أتفق مع قفّاص أعمى من أجل صناعة قفص يسع طيور البرهان في أهوار الناصرية وميسان كلها، ثم استأجر سنابيك كثيرة وهبط بها مع مجرى الفرات إلى الأهوار وصار يعدّ الكمائن والفخاخ لفرائسه .
وبعد شهر بعث إلى القفّاص رسالة يطلب إليه أن يجعل قفصه يتسع لحمل عشرة سنابيك كبيرة من البرهان، وبعدها بمدة تضاعف العدد، وكلّما زاد، أتسّع القفص وصار يمرّ بأزقة المدينة وشوارعها وأنهارها وبساتينها، وصعد به حتى أرتفع على منائرها الذهبية وصار يُرى على بعد مسيرة يومين.
بدأت السنابيك تصل المدينة محمّلة بطيور البرهان القزحية، وفتح الناس العنابر لتنتشر في فضاء القفص .
اختلطت الطيور بالناس حتى صاروا يتعثّرون بها ، وتخفي ظلالها المديدة صغارهم في الأسواق والساحات الفسيحة، ثم دخلت البيوت وصارت تجد في الأرائك والأسرّة لذة كبيرة مما جعلها تضع بيضا أكثر من المعتاد وتتضاعف أعدادها مرات كثيرة .
وكثرت حالات عسر الطلق والتفريق وإرسال الهاتف وأقران الجن، ونسب الناس هذه الأعمال للخواص العجيبة في ريش البرهان وعظامه .
وبعد نحو عامين باع الطيوري آخر ممتلكاته ليوفّر لمخلوقاته وجبة أخيرة .فقرّر كليدار الحضرة في اجتماع دُعي إليه وجهاء المدينة بحلّ العقد بينهم وبين الطيوريّ مادام لا يقدر على إطعامها والعناية بها .
.. أخذ الناس يطاردون البراهين من شارع إلى آخر ومن أريكة إلى أخرى، ومن فرط فزعها حلّقت عاليا ، عاليًا ، حتى بلغت سقف القفص ، وأخذ خفق أجنحتها يقشّر جلد الفراغ إلى أخاديد عميقة ، فسال الهواء بشدة فيها، حل ظلام ليّن ، وشعر الناس إنهم يتجولون في جبال من اللحم النيئ، تراكمت أسراب أخرى من البرهان ، وتواتر الخفق حتى أخذ هيئة جناح عملاق جعل المدينة ترتفع عن الأرض مع كلّ أخدود يحفر الفراغ ويجعل الهواء يسيل عنيفا في مسالكه .



ارتفعت بعيدًا بقبابها الذهبية وقبور أوليائها ومتصوفتها، بأنهارها وحصونها المهجورة، بقناطرها وسورها القاجاري الذي تحدّث عنه ابن بطوطة ، بساعاتها وعرباتها ونصبها الضخمة وآلات فلكييها الصدئة، عاليا ارتفعت وابتعدت في الجهات كلها.
ومنذ ذلك اليوم اختفت المدينة ولم يعد الناس في المناطق المجاورة يحاولون استعادة ما حدث ..
فقط اكتفوا بطرد الطيوريين والقفاصين، وأحرقوا رسائل أخوان الصفا وكتاب الدينوري في الساحات العامة وعاشوا مبتهجين بنسيانه