الجمعة، أغسطس 06، 2010

داد

كان قد مضى على سنة الطبعة وقت طويل ، في حساب تلك الأيام التي كانت تمرّ بطيئة ومتشابهة، عندما وصل إلى ( داد ) نقّاش وأقام عريشا صغيرا في الجهة المطلة على قرية ( الحلاه ) من الجبل .
وفور وصوله أخذ يعدّ أنابيقه وزجاجاته وجفناته الخزفية ويملؤها بنباتات النيلنج والزعفران والعصفر والفوّة الحمراء وفحم أشجار السمر ودخانه الغليظ ثمّ يحضّر مزيجا صمغيّا من البطم أو الزاج وبعض الأعشاب التي يجمعها من الجبل. وكان كلما انتهى من صناعة لون، يغمس أصابعه فيه ويتمتم بصوته الخفيض والحاد ويرسم أوفاقا على ورقات السدر ويحّرك المزيج حتى يشتدّ .

ثمّ يهبط إلى القرية ويأخذ الصوف المنسوج ويعود به إليهم بعد أيام منقوشا برسمات تجعلهم مشدوهين من فرط إتقانها .

كان يرسم إبلهم ووعولهم الجبلية وبيوتهم وأفلاجهم وأوديتهم ومسالك الجبال التي تحيط قريتهم، وما كان يقبل بأي ثمن لعمله، وكل ما كان يطلبه هو أن تبقى منسوجاتهم في الحلاه ولا تخرج منها لأي سبب .



بعد سنتين على وصوله أخذ يرسم الناس بعد أن يمنحهم ( روبيّات ) حتى لا يواصلوا التلفّت أو مضغ أوراق شجيرات الغوبان واللحلح وأحيانا مطاردة الكلاب الضالة أو التجمّع حول سلحفاة قادها مصيرها إلى أن توقد النار تحت ترسها حتى تتحوّل إلى قبضة من الزيت المترسّب الذي ينفع لعلاج المفلوجين وأوجاع المفاصل وعرق النسا .



بدأ بأخوين ورسمهما في هيئة واحدة تماما على غير حقيقتهما، فالأول كان طفلا في الرابعة أما الآخر فتجاوز العاشرة من عمره. ولكن نقّاش جبل داد عطّل الزمن، فجعل رأس الطفل يصغر وأكتافه تتّسع وبطنه يضمر ووجهه يمتدّ ماعدا جبهته التي ضاقت قليلا وصارت بمستوى شعر الناصية.



لقد فاضت الصورة عليهما، وأخذت تواصل حلولها في الطفلين، فصار لهما نفس الهيئة والقوام والملامح في الواقع أيضا، وكلّما أمعنت في حلولها زاد الشبه والتطابق بينهما.

وبعد أربعين يوما لم يعد أبواهما يتمكنان من التفريق بينهما، بل وأكثر من هذا كله، اشتركا في اسم واحد وذاكرة واحدة.



ثم عكف النقّاش يبدّد مدّخراته من الروبيات الهندية من أجل تثبيت سكان القرية إلى كرسيّه ورسمهم بأصابع الرب داد كما كان يردّد على الجميع، وبعد أن انتهى من الناس، بدأ برسم بيوت الحلاه وطرقها وأشجارها وحيواناتها ..

مكث النقاش في داد أربع سنوات قبل أن يختفي تماما، ولكنه اختفى بعد أن تمكّن أخيرا من خلق قبيلة كاملة من الكائنات المتماثلة .















---------



هوامش



سنة الطبعة : رياح وعواصف عاتية في الخليج ، وربما كانت إعصارا أو زلزالا بحريا كما بدأ البعض بترجيح هذه الفرضية خلال الفترة التي أعقبت ( توسنامي).

ولكن تضرّر المناطق الداخلية من المدن وخصوصا القطيف ، يجعل الأمر محصورا بين العواصف والإعصار .

حدثت سنة الطبعة على أرجح الأقوال في عام 1344 هـ ، في نهاية موسم الغوص (القفال).

كانت نتائجها مدمرة على نحو كبير وعلى صعد مختلفة، مما جعل الذاكرة الجمعية تعيد إنتاجه في أمثالها الدارجة وكناياتها على امتداد الخليج العربي.



داد : جبل أو سلسلة جبال ( في إمارة الفجيرة بدولة الأمارات العربية ) ، يُطلق عليها سلسلة جبال الحجر الشمالي ، والحجر مفردة لها دلالة لاهوتية في الديانات السابقة على الإسلام ، فلقد كان اقيال اليمن وملوكهم يتّخذون المحاجر الدائرية أماكن إقامة لهم ومعابد لآلهتهم ، وكنت قد توسّعت كثيرا في هذه المادة التي رجّحت إنها من الأصل الثنائي المضعّف ( حجّ ) في مادة حجل ونشرتها في قسم اللغة بمعرّفي سلوان .

ومازال داد الجبل ( الذي أعكف حاليا على وضع بحث يتناوله ) يحتفظ بقداسة بين سكان القرى التي تقيم في مجاله . وافترض أن التسمية جاءت من مفردة ( أدد ) الأكدية والتي تعود إلى أله العواصف والرياح ، والمفردة في سياقها المعاصر تعرّضت لما يعرف بالإقلاب المكاني أو الموضعي . أي أن : ادد = داد

ومعروف تماما أن أدد هو أحد أسلاف العرب كما يرد عند النسّابة ،

أما تسمية الأماكن بأسماء الآلهة فهو أمر شائع ومعروف على نحو واسع كما في ( تاروت ) التي يرجّح الآثاريون أن أصلها عشتاروت ، وكذلك جبل ودّ الذي يعود إلى أله القمر المعينيين في سلسلة جبال عسير.



الحلاه : بهاء السكت ، قرية تنزل فيها ثلاث قبائل ( الزيود ، اليمامحة ، الصريدات ) ، تقع في مجال الجبل ، وكنت قد زرتها وزرت الجبل في بحث ميداني قبل نحو شهر