الجمعة، يوليو 30، 2010

قراية (10)

الثلاثاء 18 أبريل، باص 24 ومكتبة دار البلدية


أعاني مزيجًا من الفقد وفقدان الذاكرة..
.. من فوضى تدخلُ وتخرج ثم تدخل ولا تخرج قبل أن تترك قائمةً طويلةً من الشروط والمطالبات، أحياًنا تدخل ولا تخرج أبدًا..
.. من حاجة إلى: أن أعرفَ كيف سيتعيّن على رجلٍ مثلي فَقَدَ منذ وقتٍ ليس بالقليل القدرةَ على أن يبدو متجهَّما أمامَ أشياء لا يطيق النظر إليها..
.. من طريقتي في سؤالِ السَّيد (سمث) عن ممحاةٍ كبيرة، كبيرةٍ جدًا وأنا أفردُ ذراعيَّ لأبدو جديًا في المطالبة بممحاةٍ بمثلِ هذا الحجم، ورغم أن السيد سمث بدا متيقّنًا من أن حاجتي إلى ممحاةٍ كهذه؛ تفتقد إلى الجدية؛ وأحياًنا إلى الواقعيةِ كما كان يقول عندما يشعر بإصراري، ولكنني بالفعل أحتاج لمثل هذه الممحاة. ربّما يسعى أحدكم إلى تأكيد ارتباطها بفكرة الفقد، ولكن الأمر ليس كذلك، لأن الممحاة التي أبحث عنها حقيقية بل وتتّسع على فكرةِ المحو. وبالطبع ستبدو الحاجة إليها غير منصفة إطلاقًا عندما أسعى إلى تأكيد أنها ستعمل على معادلة فكرة الفقد ذاتها.
قبل أن أخرج من بحر النجف، وأقطع الصحراء باتجاهِ منطقة الصحن وسعير والمعانية، وكان ذلك أثناءَ خروجي الأخير من العراق، قادنا دليلنا البدوي إلى سليل إحدى العائلات الكليدارية التي نجت من مذبحة شرسة قبل أكثر مئةِ عام وعاشت في أحد الأدْيرةِ المهجورة ببحر النجف بعد أن أعادت ترميمه وتخليع جرن المعمودية الكبير وأعمدة الآباء. بدأت المذبحة بعد وقوع ممحاة هائلةٍ بيد كليدار الحضرة، لم يعرف أحدٌ كيف كان في وسع الكليدار محوَ الأشياء بمثل هذه السهولة. بدأ بمحو سجلات المواليد من أجل تأخير انخراطهم في التجنيد الإجباري الذي تتابعه فرق الانكشارية العثمانية. غيّرَ أسماءَ الذكور البالغين حتى لا يعود بمقدور أحد التعرّف عليهم، غيّر كناياتهم ومهنهم ومحلات إقامتهم. غيّرَ الحراسات على السور وأسماء السقّائين الذين يجلبون الماء من شرايع الفرات، كان يفعل ذلك من أجل أن يمعن في تضليل الانكشارية عن المدينة.
وبعد سنوات، شعرَ هؤلاء أن هذه المدينة غامضة ولا يمكن أن تكون حقيقيّة، فسكّانها لا يهرمون أبدًا، وهم في الغالب دون السنّ القانونية للتجنيد الإلزامي منذ عقدين، وأكثر من هذا، فإن فرقهم بدأت تلاحظ أن لرجالهم أكثر من اسم، أكثر من عمر، أكثر من مهنةٍ وأكثر من أب.
آه، أكثر من أب وأحيانا بلا أب. هذا ما كان يفعله الكليدار نكايةً ببعض أعداء عائلته التقليديين.
بعد أن خرج الانكشارية، وأحكموا غلق الأسوار وراءهم وقطعوا الطرق التي تقود إلى المدينة وتلك التي تربطها بالمدن الأخرى، قبضَ الناس على الكليدار وأوثقوه إلى نخلةٍ في ميدان المدينة، وبعد أن انتهوا من محو اسم أبيه وأمه وقتلوا ثلاثة من أبنائه الأربعة، أخذوا يقشّرون ممحاته الهائلة بسكاكينهم ويمضغون الطبقة الشريطيّة الرقيقة. أكثر ما كان يؤلم الكليدار ويجعله يواصل صراخه متفجّعاً هو إصرارهم على بلعها.
قبل أن ينتهوا من تقشير الممحاة كان الكليدار جثّةً هامدةً في الميدان، ثم طاردوا آخر أبنائه إلى بحر النَّجف وهدّدوه بالقتل إنْ صعد التلّة ودخل المدينة.