الاثنين، أغسطس 09، 2010

عزلات أخرى

هذا ما حدث
هذا ما حدث بالضبط يا شيخ
هل قلت لك غير هذا ؟. هل سمعتني أقول لك أن أبي لم يغادر إلاّ بعد أن تركني في بيت الحجر مع مخطوطه اللعين ؟
كل ما أتذكره هو صورة أبي في معطفه الواسع، ينْقب جدار العليّة ويستخرج المخطوط على عجل، ويدفعه إليّ وهو يقول:
ـ انّه لأحد العارفين، الرجل الذي كان يكلّم الحجارة في وادي الأبيّض وشفاثا وجنوبا حتى رفحا، أعملْ به، وستلحق بي .
ثمّ غادر، لم أكن أبلغ الحادية عشرة أيها الشيخ، مكثت أياما أتفرّس في هوامشه التي تزحف إلى المتن بأطرافها الحادة وكأنها نصال ماضية .
لم أرَ أبي منذ أن دفع إليّ مخطوطه ولم يسمع به أحد، هل أصفه لك، لعلّك تكون قد رأيته في إحدى سياحاتك ؟. إنه نحيل ، بعينين لامعتين وشعر أشعث، يترك خرائط غامضة وأوفاق ومثلّثات طيعيّة في كلّ مكان يأوي إليه ، إنّه بسيط كالصيف، كالصيف تماما يا شيخ . ترك مخطوطه بيدي وغادر.
في السنة الأولى بكيت كثيرا، وبحثت عنه شرقا حتى كهوف الطار وغربا حتى السماوة ولينا ولوقا، وسمعت من البدو عن رجل أشعث بمعطف جلديّ واسع يحرس قصرًا مهجورًا لا يعبر إلى عزلته أحد.
هل سمعت عنه أيها الشيخ ؟
كان أبي، ذهبت إلى حيث وصفوا المكان ولم أجده، ولم يكن القصر في موضعه أيضا، لقد نقله معه إلى مكان آخر.
عملت بالمخطوطة، حرّكت أعدادها ومثلثاتها ونسبتُ الأشياء إلى أسمائها حتى طعنت في السنّ ولم يظهر أبي ..
.. لم أرَ امرأة في حياتي، يقولون أنّ النساء أرواح خفيفة، تعبر دون أن نشعر بها مثل مثلّثات مخطوط أبي، أليس كذلك ؟
ومرّ بي رجل أبيض كلبان الذكر وحدّثني عن النهر، قال إنّه يمتدّ كالألف ويلتفّ كالهاء ، ويتّسع كالكاف .
لم أعرف في حياتي كتابا غير مخطوط أبي، ولم أنسبْ مثلّثا إلى عدده وأفرك غياباته بالندّ والكندر والميعة السائلة حتى يبزغ، إلاّ في مخطوط أبي.
ولكن هل النساء أرواح خفيفة ؟ قرأت في مخطوطي، إن من انكسر قدحه مات ما فيه، ولقد انكسر قدحي مرّات كثيرة، فهل ماتت جميع نسائي في بدني أيّها الشيخ ؟. هل هناك حياة أخرى خارج مثلثاتي وأعدادها ؟
إذا رأيت رجلا أشعث، فزعا، بمعطف جلديّ واسع، يترك خلفه خرائط و أوفاق غامضة، فأقتله...
إنه أبي.