الاثنين، أغسطس 09، 2010

انتحار رجل لا يكره سبينوزا

رأيته قبل ثلاثة أيام من انتحاره قرب دائرة البريد. بدا لي ساهما ومشتّتا وهو يتطلّع إلى الفراغ ..
كان يريد أن يتحدث عن أمه عازفة البيانو وسليلة إحدى الأسر الكبيرة، تركته يفعل ذلك بحماسة غريبة. كان يحرّك يديه بإيماءات واسعة وكأنه في محاولة شاقة للقبض على ما بقي منها في ذاكرته.
أخبرني برغبته أن نقطع شارع ( هيرين سترات ) الطويل والمديد،
قلت له سنحتاج إلى أكثر من ساعة فهل أنت متأكد من أنك قادر على المشي طيلة هذا الوقت ؟
قال: بالتأكيد وهي رغبتي.
في شارع هيرين سترات أباح لي برغبته في أن يمنحني (آلة سيكسفون ) تعود إلى جدّه، حدستُ أنني يجب أن أقبلها، وأخبرني أيضا أنه لم يكن يحب سبينوزا قبل هذا اليوم, وكنا قد بلغنا البيت الذي عاش فيه سبينوزا طيلة تأليفه كتاب الأخلاق وقبل انتقاله إلى لاهاي وموته المبكر.
قال وهو يرمق نحتا نصفيا: أحبتْ أمي سبينوزا منذ صغرها لأنه كان يمسك معولا ويهشّم ثوابتها هي لا ثوابت عصره ، فتحولت بفضله من كاثوليكية متشددة ، إلى عدمية تجيد البصاق على أقدام العجائز قبل دخولهم الكنيسة في أيام الآحاد، وصارت تعزف في شارع ( نورت اينده ) لتعود آخر النهار بحمل ثقيل من النقود المعدنية .
أما أنا فكرهت سبينوزا لأن والدي خيّرها بين أن تكفّ عن مناداته بـ (سبينوزا ) أو أن يهجرها، فلم تلتفت ناحيته أبدا وهي تقول له ببطء وكأنها تمضغ الحروف قبل إن تطلقها: أهجرني يا سبينوزا .
ومنذ ذلك اليوم لم أرَ أبي إلا في جنازتها وقدّاسها.
ثم قالت لي بعد أن هجرها أبي بشهرين إن كنت أحب أن تناديني سبينوزا .
أجبتها على الفور: لا
فقالت: ولكنني أريد ذلك يا سبينوزا
ومنذ ذلك اليوم لم تعد تناديني رونالد.
قطعنا الشارع حتى بلغنا ( رمبرانت بلاين) وقال: كانت أمي تعتقد أن لوحة درس التشريح التي رسمها "رمبرانت" كانت في الأصل بطلب من جدي ، وكانت تقول: هل رأيت يا سبينوزا إلى البهاء الذي يفيض من وجه الميّت ؟ أنه ليس أقلّ مهابة من الأحياء الذين يحيطون بجسده الممزّق .
ثم التفت إليّ على عجل ليقول: لم يكن الميت هو جدّي.
كان ينزف ذاكرته وكأنه يريد أن يتخلّص منها.
في طريق العودة قال: بعد دقائق سينتصف النهار على الساحل الغربي من الولايات المتحدة.
كانت ساعته تقلّ بنحو ست ساعات عن توقيتنا ، ولم اسأله من قبل عن السبب ، ولكنه كان مستعدا هذا المساء أن يبوح بأكثر مما انتظرت.
(كانت رائعة وهي تعترض طريق الباص بصراخها وضحكها الصاخب ، حتى إنّ السائق ليجد صعوبة في التوقف حين تباغته وتقفز من خلف شجرة إلى منتصف الشارع وتعترض طريقه رغم معرفته تماما بالوقت والمكان الذي قد تبزغ منه.
لم تكن تهبط من الباص إلا بعد أن تنتهي من قراءة قصيدة "أربعاء الرماد" لأليوت، وعندما تهمّ بالنزول، ترفع يدي وتقول :
أنها إكراما لهذا الرجل، وأرجوكم أن تستعدّوا في الغد لسماع "نور في آب" لأن رجلي هذا لا يستحق أقل من فوكنر، اقسم لكم إنه هولندي، إلا تصدّقون . حدّثهم يا رونالد بالهولندية ليصابوا بالصداع ودوار السفر)
كانت تفعل ذلك كل يوم تقريبا، وفي أحدى المرات تغيّر السائق، وكانت هيلينا قد انتهت من خطة محكمة لمباغتة الباص، وبمجرد أن اقترب خرجت راكضة من خلف تل صغير من ورق الجرائد وباغتته ..
لم يجد السائق الجديد وقتا لتفادي جسدها الذي قذفته الصدمة بعيدا، حتى خُيّـل إلي أنه سوف لن يلامس الأرض أبدا.
كانت رائعة، لقد قضت الليلة السابقة في مراجعة فوكنر حتى قبل موعد الباص بنصف ساعة .
أرادت أن تقول لي أحبك بطريقة لم يفعلها أحد من قبل...
وصلنا إلى البيت، صافحني بحرارة وهو يقول لي: أنها معجزة أن استمرّ حيّا طيلة هذا الوقت، و أردف سريعا:
لا أحد يمكنه مباغتة الباصات في هولندا، أليس كذلك ؟
اتصلت بأخته بعد وصولي وقلت لها أظن إن رونالد ليس على ما يرام .
قالت: لا عليك, أنها ليست المرة الأولى، بعد ثلاثة أيام سيخرج مبتسما من وحدته.
وبعد أيام تلقيت خبر انتحاره،
كان قد مضى عليه ثلاثة أيام.